حادثة غرق العبارة في الموصل: المأساة التي كشفت حجم الفوضى والفساد

يبدو أن فاجعة غرق العبارة في نهر دجلة التي حدثت في الموصل قبل أيام، أزالت كل الأغطية التي كانت تحاول إخفاء الفوضى الإدارية والأمنية، التي تشهدها مدينة الموصل منذ تحريرها من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي في تموز 2017 ولغاية الآن. فمنذ شهور تصاعدت التحذيرات عن تنامي الفساد وعمليات التهريب وتحكم المجاميع المسلحة بمدينة الموصل، وبعد الغضب الشعبي والحزن الكبير الذي انتشر بسبب حادثة العبارة الأليمة، تحولت التحذيرات السابقة إلى كلاماً "مكشوفاً" واتهامات مباشرة، يتم طرحها في الحكومة وفي البرلمان وفي الإعلام وفي المجتمع.

ففي مساء يوم الخميس 21 آذار 2019، حدثت كارثة إنسانية كبيرة في مدينة الموصل حيث غرقت عبارة تحمل أكثر من 250 شخص في نهر دجلة، هذه العبارة تابعة إلى مشروع جزيرة "أم الربيعين" السياحية في الموصل، وتستخدم هذه العبارة لنقل الأشخاص من منطقة الغابات السياحية إلى الجزيرة عبر مسافة لا تتجاوز الـ80 متر في نهر دجلة. الصحفي الموصللي "عبد الجبار الجبوري" الذي فقد زوجته وثلاثة من بناته في تلك الحادثة، قال في حديث مع قناة تلفزيون "الشرقية نيوز" العراقية في مساء يوم 26 آذار: "ان هذه العبارة مصممة لنقل 50 شخص فقط، وان المسؤولين في الجزيرة قاموا بتحميل حوالي 287 شخص في العبارة التي غرقت". كما ذكر الصحفي عبد الجبار الجبوري في ذلك اللقاء:" محافظ نينوى نوفل العاگوب وجميع المسؤولين في الموصل كانوا خارج مدينة الموصل عند وقوع حادثة غرق العبارة، وان أغلب هؤلاء المسؤولين كانوا في إقليم كردستان لأغراض السياحة هم وعوائلهم..وأن المحافظ العاگوب وصل للموصل بعد 3 ساعات من وقوع الحادثة".

وصل عدد ضحايا هذا الحادث أكثر من 100 متوفي وعشرات المفقودين، معظمهم من النساء والأطفال الذين جاءوا إلى هذه المنطقة السياحية للاحتفال بأعياد الربيع التي تصادف في يوم 21 آذار من كل عام. تسبب هذا الحادث بصدمة وغضب شعبي وحزن شديد في الموصل بشكل خاص، وفي جميع انحاء العراق بشكل عام. لأن منذ اللحظات الأولى لوقوع هذا الحادث، كان واضحاً للجميع بأن الأسباب المباشرة لوقوع هذا الحادث هو الإهمال وانعدام إجراءات السلامة والأمان، والمجازفة بحياة الناس، حيث تم تحميل هذه العبارة بأكثر من طاقتها، لغرض زيادة الكسب المالي للأشخاص الذين يملكون هذا المشروع السياحي، حيث ان أجرة كل راكب في هذه العبارة 1500 دينار (حوالي 1,2 دولار)، وهذه العبارة تقطع المسافة إلى جزيرة "أم الربيعين" عشرات المرات يومياً. كما ان منسوب مياه نهر دجلة في مدينة الموصل خلال يوم الكارثة كان مرتفع جداً وكان من الخطر تشغيل هذه العبارة. ومن جهة أخرى فأن انعدام وسائل الإنقاذ لدى الجهات الحكومية المختصة، مثل الشرطة النهرية وشرطة الدفاع المدني، أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا في هذا الحادث.

وصل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى الموصل في ليلة الكارثة، وقرر إعلان الحداد العام على الضحايا في جميع انحاء العراق، وتعهد بمحاسبة المقصرين ومساعدة ذوي الضحايا، ثم عاد إلى بغداد للتباحث مع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، حول الإجراءات التي يجب اتخاذها تجاه هذا الحادث المأساوي، وتجاه كل أوضاع الموصل بشكل عام. بعد هذا الحادث مباشرة بدأت المعلومات المسربة حول تفاصيل هذه الكارثة تظهر في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ظهر ان منتجع جزيرة "أم الربيعين" الذي حدثت فيه الفاجعة هي من أملاك الدولة ولكنها مؤجرة كمشروع استثماري، وتبين ان المالك الرئيس لهذا المشروع هو شخص من أهل الموصل أسمه "عبيد الحديدي" يدير هذا المشروع عن طريق ابنه "ريان عبيد الحديدي"، ولكن النائب في البرلمان عن محافظة نينوى "إخلاص الدليمي" صرحت لقناة "روداو" الكردية في مساء 21 آذار : "حركة -عصائب أهل الحق- تمتلك حصة في جزيرة "أم الربيعين" السياحية، والعصائب تتحمل جزء كبير من المسؤولية عن حادث غرق العبارة". حيث تبين ان هنالك شخص أسمه "حيدر الساعدي" ويلقب بـ"حيدر رينكو" له حصة 30% من هذا المشروع السياحي. حيدر الساعدي ليس من أهل الموصل وهو في الأصل ينتمي لأحدى مدن جنوب العراق، تفيد المعلومات التي تسربت بعد الحادث بأن الساعدي أصبح معروفاً في الموصل بعد التحرير، على انه الشخص المسؤول عن الكثير من النشاطات المالية لفصيل "عصائب أهل الحق" في الموصل. حيدر الساعدي استأجر أيضاً ساحة "بيع المواشي" في منطقة "گو گجلي" بعقد استثمار مع إدارة محافظة نينوى. حيدر الساعدي يدير هذه الأعمال من مكتب في ناحية "برطلة" في الموصل. علماً ان "عصائب أهل الحق" من الفصائل المسلحة المدعومة بقوة من ايران، وهذا الفصيل أحد فصائل الحشد الشعبي التي أصبحت ذات نفوذ وتأثير في مدينة الموصل بعد تحريرها من داعش. بالطبع ان"عصائب أهل الحق" أنكروا علاقتهم بـ"حيدر الساعدي" بعد حادثة العبارة، ولكن النائب الحالي في البرلمان عن مدينة الموصل و وزير الدفاع السابق "خالد العبيدي" قال في لقاء مع قناة تلفزيون "الرشيد" العراقية في مساء 26 آذار:"ان حيدر الساعدي كان يتجول في الموصل خلال الأشهر السابقة برفقة حماية مسلحة تتكون من 40 سيارة مسلحة من نفس نوع السيارات المسلحة التي تستخدمها فصائل الحشد الشعبي..ولم تكن هنالك أية جهة حكومية أو أمنية في الموصل تستطيع الوقوف بوجهه، لأن الجميع يعرف بأن حيدر الساعدي يمثل فصيل مسلح من فصائل الحشد الشعبي!!".

العديد من النواب في البرلمان العراقي عن الموصل مثل "رحيم الشمري" و"أحمد الجبوري" و"نايف الشمري"، صرحوا بعد حادث غرق العبارة لعدة قنوات تلفزيونية بأن "هنالك فصيل مسلح ينتمي للحشد الشعبي يسيطر على منتجع جزيرة "أم الربيعين" السياحية"، وان "هذا الفصيل المسلح يمنع أي جهة أمنية أو حكومية من الدخول للمنتجع للتفتيش او التدقيق على إجراءات السلامة والأمان في منشآت هذا المنتجع السياحي، ومن ضمنها العبارة النهرية".

لم يقتصر حجم الفساد وهيمنة الفصائل المسلحة في الموصل على السيطرة على أراضي ومنشآت الدولة فقط، وانما تكشف بعد حادثة غرق العبارة بأن هنالك عمليات تهريب ضخمة للحديد والخردة "السكراب" حصلت في الموصل في الأشهر السابقة، هذا الحديد يتم تجميعه من حطام المباني المهدمة خلال معارك تحرير الموصل من داعش. وان عمليات التهريب هذه تقوم بها جهات وشركات وهمية تدعي ارتباطها بعدة فصائل مسلحة تابعة للحشد الشعبي بالتنسيق مع إدارة محافظة نينوى السابقة. حيث ان إدارة محافظ نينوى السابقة وقعت عقود مع تلك الجهات لـ"تنظيف" مدينة الموصل، وتحت غطاء عقود التنظيف كانت تلك الجهات جمعت ملايين الأطنان من الحديد والخردة وهربته خارج الموصل وباعته. ورد أسم "وعد الله القدو-أبو جعفر-" قائد لواء 30 "حشد الشبك" التابع للحشد الشعبي في الكثير من التقارير التلفزيونية التي تحدثت عن عمليات تهريب الحديد والخردة من الموصل. النائب الحالي في البرلمان عن مدينة الموصل و وزير الزراعة السابق "فلاح حسن الزيدان" قال في لقاء مع برنامج "على الطاولة" في قناة تلفزيون "السومرية نيوز" العراقية في مساء 24 آذار:" ان كمية الحديد والخردة التي هربتها تلك الجهات من الموصل تقدر بـ20 مليون طن، وقد تم بيع الطن الواحد بمبلغ 50 دولار". فلاح الزيدان قال أيضاً في لقاؤه التلفزيوني:" هنالك شخص أسمه "تحسين علي حبيب الدراجي" يلقب بـ –أبو رقية-، هذا الشخص بعد تحرير الموصل من داعش أنشأ معسكر صغير يحتوي على أكثر من 20 سيارة "دفع رباعي" سوداء مع أسلحة "متوسطة وخفيفة" في منطقة "السدهة" قرب حقول نفط "نجمة" التابعة لمحافظة نينوى، تحسين الدراجي يدعي انتماؤه لفصيل "كتائب الأمام" التابع للحشد الشعبي، وان تحسين الدراجي كان يمنع بقوة السلاح أية جهة حكومية من استخراج النفط من حقول "نجمة" أو التقرب منها، وان الدراجي ومجموعته المسلحة قاموا بتهريب مئات الألاف من أطنان النفط من حقول "نجمة" بواسطة السيارات الحوضية "الصهاريج" ليبيعها في إيران بأسعار منخفضة، وكان طريق تهريب هذه الكميات من النفط يمر من مدن إقليم كردستان، بالتنسيق مع جهات كردية متنفذة". فلاح الزيدان قال في لقاؤه التلفزيوني بأن هذه المعلومات عن تهريب النفط من حقول "نجمة" موجودة بتقارير مفصلة في وزارة النفط العراقية، وهذه المعلومات معروفة لدى جميع المؤسسات الأمنية العراقية. كما قال فلاح الزيدان بأن هنالك الآن هجرة جديدة لمواطني الموصل بسبب انتشار الفساد والفوضى الأمنية وسوء الأوضاع في الموصل، وان أكثر من 26000 عائلة هاجرت من الموصل بعد تحرير المدينة من داعش، وان الآن هنالك من 50-100 عائلة تهاجر من الموصل يومياً.

في نفس سياق الأزمة الحالية في الموصل، تنبأ مركز دراسات الشرق الأوسط في أنقرة ORSAM بخطورة الأوضاع الحالية في الموصل، وعقد ندوة في 26 شباط الماضي حول الأوضاع الحالية في الموصل، بمشاركة عدد من المسؤولين الحكوميين والأكاديميين والباحثين الأتراك والعراقيين، فضلاً عن الكادر البحثي في ORSAM، تم التركيز في تلك الندوة على الأزمات والمشاكل الإدارية والأمنية والإقتصادية والإجتماعية التي شهدتها مدينة الموصل بعد تحريرها من سيطرة داعش، وانعكاسات تلك المشاكل على واقع ومستقبل هذه المدينة ومواطنيها. وقد طرحت في تلك الندوة أفكار و آراء لتحديد أسباب تردي الأوضاع في الموصل، وإقتراح السبل الكفيلة لإصلاح الأوضاع في هذه المدينة.

من جهة أخرى، دخلت المرجعية الدينية الشيعية العليا أيضاً على خط أزمة غرق العبارة في الموصل، ففي خطبة صلاة الجمعة في كربلاء يوم 22 آذار، التي ألقاها الشيخ "أحمد الصافي" وكيل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني،  تضمنت تلك الخطبة مطالبة من المرجعية العليا بإجراء تحقيق جدي حول حادثة غرق العبارة، كما طالبت المرجعية بمحاسبة جميع المقصرين والمسؤولين عن تلك الكارثة الإنسانية، كما ذكرت المرجعية في تلك الخطبة بان حادثة العبارة تكشف بان هنالك خلل كبير في النظام الإداري للدولة، وان هنالك حاجة كبيرة لتفعيل دور مؤسسات الرقابة في الدولة.

في يوم 22 آذار أصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي قراراً بتشكيل "خلية أزمة" لإدارة شؤون محافظة نينوى، برئاسة الدكتور "مزاحم قاسم الخياط" رئيس جامعة نينوى، وعضوية كل من الجنرال في الجيش العراقي "نجم الجبوري" قائد عمليات نينوى والجنرال "حمد النامس الجبوري" قائد شرطة نينوى، كما تضمن هذا القرار توصية من رئيس الوزراء إلى البرلمان للتصويت على إقالة المحافظ نوفل العاگوب. ان قرار رئيس الوزراء هذا كان بمثابة عزلاً للمحافظ العاگوب وتجريده من كل صلاحياته. وقد قال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في مؤتمره الصحفي الأسبوعي في يوم الثلاثاء 26 آذار: "حادثة العبارة في الموصل كشفت عن أخطاء كبيرة، وجشع كبير، وعدم مبالاة بأرواح المواطنين".

علماً ان هذه الأوضاع المتردية في الموصل منذ عدة شهور، دفعت البرلمان العراقي في 20 كانون الأول 2018 إلى تشكيل لجنة "تقصي الأوضاع في محافظة نينوى"، وكانت تلك اللجنة برئاسة النائب عن الموصل "إسامة النجيفي" وعضوية 42 نائب برلماني من نواب محافظة نينوى، وان هذه اللجنة بعد ان انهت تحقيقاتها في بداية آذار 2019 رفعت إلى البرلمان العراقي بحدود 30 توصية لتصحيح الأوضاع في محافظة نينوى. وبعد حادثة العبارة اجتمع البرلمان العراقي في 24 آذار في جلسة مخصصة لمناقشة هذه الكارثة الإنسانية، وأصدر البرلمان عدة قرارات بخصوص الأوضاع في الموصل، وجميع تلك القرارات مستوحاة من توصيات لجنة تقصي الأوضاع في الموصل، وأهم قرارات البرلمان؛ إقالة المحافظ نوفل العاگوب ونائبيه، توحيد القيادة والسيطرة على القوات العسكرية والأمنية في الموصل، إعادة النظر بانتشار القوات الأمنية وفصائل الحشد الشعبي في الموصل، إغلاق جميع المقرات والمكاتب الاقتصادية الوهمية التي تدعي ارتباطها بالفصائل المسلحة في الموصل، إيقاف كل عمليات تهريب النفط والحديد والخردة من الموصل، إجراء التحقيقات حول العقود الفاسدة في إدارة محافظة نينوى، البدء بحملات جدية لإعادة إعمار مدينة الموصل، الإسراع بتعويض المتضررين من أهالي الموصل. في 27 آذار أصدر مجلس القضاء الأعلى في العراق مذكرات اعتقال، ضد محافظ نينوى السابق نوفل العاگوب ومجموعة من معاونيه المسؤولين عن العقود والمشاريع والشؤون المالية في إدارة محافظة نينوى.

خلاصة لما تم طرحه أعلاه، فأن مدينة الموصل بعد تحريرها من سيطرة داعش، لم تشهد أي جهود إعادة اعمار حقيقية للبنية التحتية المدمرة في المدينة، وما زال نصف المدينة الأيمن مدمراً بالكامل، كما ان المدينة لم تشهد أي جهود فعلية لمعالجة الأضرار المعنوية والنفسية التي أصابت المجتمع الموصللي، من جراء الظروف القاسية والصعوبات التي واجهها أهل الموصل خلال سنوات سيطرة داعش على المدينة وخلال معارك تحرير المدينة، ولحد الآن لم تدفع أية تعويضات أو مساعدات لمئات الألآف من مواطني الموصل الذين تدمرت منازلهم ومتاجرهم خلال المعارك، فضلاً عن ان الموصل بعد التحرير لم تشهد إجراءات أمنية رصينة و موثوق بها، كما ان أبناء الموصل تم ابعادهم عن القرارات المهمة المتعلقة بمدينتهم. وكل ما شهدته مدينة الموصل هو فوضى إدارية وأمنية، وتنافس شديد بين مجاميع مسلحة لسرقة وتهريب الثروات والموارد من الموصل، بالتواطيء مع الفاسدين في الإدارة السابقة لمحافظة نينوى. وان استمرار هذه الممارسات الخطيرة سيؤدي بدون شك إلى انهيار وشيك في الأوضاع الأمنية والإجتماعية في مدينة الموصل، واذا ما أردنا تحقيق الاستقرار في الموصل، يجب ان تكون نقطة الإنطلاق نحو هذا الاستقرار المنشود، هو تطبيق القرارات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة والبرلمان بعد حادثة غرق العبارة بجدية، وبدون تسويف، ويجب ضرب الفاسدين والعابثين بأمن الموصل واستقرارها بقوة. وتبقى التساؤلات المهمة هي هل ستنجح الحكومة العراقية في إرغام المافيات التي تدعي انتمائها للفصائل المسلحة على التخلي عن نشاطاتها المالية وعمليات النهب والتهريب في الموصل؟ وكيف ستتمكن الحكومة العراقية من فعل ذلك؟ وهذه المافيات تجني مئات الملايين من الدولارات أسبوعياً من تلك النشاطات والعمليات، فضلاً عن ان تلك المافيات لها ارتباطات ودعم خارجي يجعلها تملك القوة والسلاح والتأثير في الأوضاع الأمنية والسياسية والإقتصادية في العراق.. تطورات الأحداث في الأيام القادمة هي من ستجيبنا على تساؤلاتنا!