مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة: غايات طموحة لواقع معقد

استضافت بغداد في 28 آب/أغسطس مؤتمراً دوليا بعنوان "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" شاركت فيه 9 دول، معظمها من الجوار الإقليمي للعراق، إضافة لمنظمات عربية ودولية، وبتمثيل سياسي من ملوك وأمراء ورؤساء دول، ووزراء خارجية أنابوا عن قادتهم في حضور المؤتمر.

حملت كلمات قادة الدول ومن أناب عنهم رسائل مشتركة يمكن تلخيصها بالآتي:

  • التأكيد على الدور المحوري للعراق في المنطقة.
  • دعم وحدة العراق واستقراره.
  • العراق مؤهل للقيام بدور فاعل في إرساء الأمن والسلم في المنطقة.
  • ضرورة تجنب الخلافات بين الفواعل الإقليميين وتحقيق السلام عبر الحوار بين الجميع.
  • الإرهاب والتطرف يشكلان خطرا على الجميع.
  • دعم الشعب العراقي في تحقيق تطلعاته من خلال الانتخابات المقبلة.
  • الاستعداد التام لإعادة الإعمار عبر المشاريع الحيوية.

سادت الأجواء الإيجابية في مؤتمر بغداد، عبر اللقاءات الثنائية ما بين رؤساء الوفود المشاركين، لاسيما أولئك الذين شهدت علاقاتهم البينية التوتر خلال المرحلة السابقة بسبب تباين المواقف تجاه عديد القضايا الإقليمية والدولية، وقد تكون الغاية من تنحية الملفات الخلافية عن جدول الأعمال هي رغبة الدول في تهدئة الأجواء المتوترة، لإنجاح المؤتمر بموجب رغبة العراق "الدولة المضيفة"، وتحقيقا لعنوان المؤتمر "التعاون والشراكة".

غابت عن المؤتمر هويته الواضحة، فعادة ما تكون المؤتمرات ذات هوية محددة يجتمع عليها المؤتمرون، سواء أكانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو ثقافية وغيرها من الملفات. كما ان الإطار الجغرافي للمؤتمر لم يكن واضحاً، هل هو لدول جوار العراق المباشرين فقط، أو لجوار العراق الإقليمي بعامة، أو انه مؤتمراً إقليمياً-دولياً معني بالشأن العراقي، فقد كان الحضور الفرنسي "غير مفهوماً" ، الأمر الذي أثار الشكوك بالفاعلية الإستراتيجية لمخرجات ذلك المؤتمر، وجدية تحويلها إلى خطوات عملية، فكثيرين يرون بان نتائج المؤتمر لن تخرج عن كونها محاولات لتحسين الأجواء الدبلوماسية والخطابات الاعلامية بين البلدان المشاركة.

كان يمكن للمؤتمر أن يكون أكثر فاعلية وتحقيقا لعنوان "الشراكة والتعاون" لو بدا متخصصاً أكثر وواضحاً في التعامل مع أزمات المنطقة، فأولوية العلاقات الدولية بلا شك في أغلب مدارسها "عدا الواقعية" هي التلاقي على الحد الأدنى من مصالح النظم السياسية وشعوبها، وهذا ما يمكن تداركه والنقاش فيه في العلاقات الثنائية أو من خلال وسطاء.

يمكن وصف ما ورد في كلمات رؤساء الوفود المشاركة على أنها سياسات عامة للدول تجاه العراق وهي معروفة على اختلاف مساراتها وأدواتها، ولم تُخصص للمؤتمر جلسات تناقش بشكل صريح كل ملف على حِدة بما يخدم المصالح المشتركة، ولاسيما الاقتصادية والاستراتيجية التي ترسم مستقبل المنطقة وملامحها في المستقبل القريب.

عانى العراق طوال السنوات الماضية من كونه طرفاً في صراع الاستقطاب والمحاور الذي يحكم المنطقة، ولم يستطع أن يكون طرفاً محايدا في العديد من مراحل الصراع، وفي أغلب الأوقات أصبح هذا البلد طرفا في ذلك الصراع بفعل انغماس الفواعل الأمنيين في العراق في مساراته بشكل علني وصريح، ويمكن استذكار ذلك من نشاطات الفصائل المسلحة العراقية العابرة للحدود في الأراضي السورية، وحتى اليمنية، وهذا بشكل أو بآخر ينسف فكرة أن يكون العراق وسيطاً نزيها في صراع الاستقطاب الذي يهدأ ويتفاعل بين برهة وأخرى.

شهدت الدبلوماسية العراقية خلال الأعوام السابقة شكلين مختلفين من أشكال إدارة السياسة الخارجية ضمن حقبتين زمنيتين، الأولى 2006-2014 والثانية 2014-2021. الأولى متأزمة اعتمدت على القطيعة والتشنج في المواقف والانغلاق على المحيط الإقليمي ولاسيما العربي، بينما صححت الفترة الثانية المسار الدبلوماسي وذهبت نحو مد جسور العلاقات مع الجميع وحسب مصالح فرضتها الوقائع الأمنية وقتئذ، وربما الدعوة للمؤتمر كانت امتدادا للفترة الثانية وإحدى أهم دوافعها.

يدرك الحاضرون من ملوك وقادة ومن ينوب عنهم في مؤتمر بغداد، أن السياسة الخارجية العراقية قد تشهد تبدلاً جوهرياً بعد الانتخابات المبكرة القادمة، وعودة إلى حقبة القطيعة والتوتر 2006-2014 في حال تمكنت تيارات سياسية راديكالية من الوصول إلى السلطة، وهذا قد لا يطمأن الفواعل الإقليميين والدوليين من الذهاب بعيدا مع بغداد في شراكات طويلة الأمد على المستويات الاقتصادية والأمنية وغيرها من صور التعاون والتكامل.

بعد 2003 لم تتمكن الدولة العراقية من صياغة استراتيجية للعلاقات الخارجية تحظى باتفاق الحد الأدنى بين الفرقاء المختلفين، وكان الانقسام حاضرا في كل أزمة مرت بها المنطقة، بسبب تحكم مصالح الهويات الفرعية للفاعلين السياسيين، القومية والمذهبية، في تحديد طبيعة مواقفها من هذه الازمات، بعيداً عن المصلحة العليا الجامعة للدولة.

إن المنعطف الخطير الذي تشهده السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في عهد الرئيس بايدن، يجبر الدول الفاعلة والمؤثرة على مناقشة جماعية صريحة لمستقبل المنطقة في حال قررت الولايات المتحدة تكرار التجربة الإفغانية في العراق، لأجل الاتفاق على صيغة استراتيجية لملئ الفراغ الذي قد يولده مثل هذا النوع من القرار وتداعياته على المستقبل الأمني، لاسيما وأن تجربة الانسحاب الآخيرة للولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما في العام 2011، حولت المنطقة عامة والعراق خاصة إلى بؤرة للجماعات الإرهابية وتصدير اللااستقرار، وفجرت أزمات إنسانية مازالت تداعياتها شاخصة حتى اليوم، وهذا ما كان يفترض أن يتضمنه مؤتمر بغداد الأخير، أذا ما أريد لهذا المؤتمر أن يناقش قضايا حيوية تؤثر في مستقبل المنطقة وتفاعلاته الدولية، وأن لا يتحول إلى مؤتمر مجاملات وعلاقات عامة. ربما تم مناقشة هذا الأمر في اللقاءات التي أجراها رؤساء الوفود المشاركة على هامش المؤتمر.

إن الانقسام السياسي الحاد على تعريف المصالح القومية للعراق بين الفرقاء السياسيين يصعب مهمة وضع برنامج واضح للسياسة الخارجية العراقية وأدواتها الدبلوماسية المتاحة، وهذا يعقد طموح حكومة الكاظمي بعودة العراق إلى دوره الإقليمي والدولي المنشود، وسيكون من الصعب لقمة غير واضحة الملامح إقناع النظم السياسية الإقليمية على التعاطي بجدية مع بغداد، كما أن صراع المحاور الذي ما زال مفروضاً على العراق لن يتيح للحكومة العراقية أن تطرح نفسها وسيطاً موثوقاً وملهماً، في ظل إصرار الفاعل السياسي الأكثر نفوذا على الاستمرار في خندقه الذي وضع نفسه والعراق فيه.