تركمان العراق والأزمة السياسية الحالية في البلد

تمكنت كتلة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من الفوز في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 بحصولها على 73 مقعدا من إجمالي 329 مقعدا في مجلس النواب. وإثر فوز الصدر بهذا العدد من المقاعد بدأ يطمح بتشكيل الحكومة في البلاد. ولكن على الرغم من فوز التيار الصدري في الانتخابات، إلا أن عدد المقاعد التي فاز بها وحده لم يكن كافيا لتشكيل الحكومة. لذلك قام الصدر بتشكيل ائتلاف مع الكتل السنية والكردية تحت اسم "تحالف إنقاذ الوطن" ويتكون من تحالف تقدم بقيادة محمد الحلبوسي ( 39 مقعدا) وتحالف عزم بقيادة خميس الخنجر (14 مقعدا) إضافة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني (31 مقعدا). وبلغ العدد الإجمالي لمقاعد هذا التحالف 157. إلا أن عدد المقاعد الإجمالية التي حصل عليها هذا التحالف لم يكن كافيا أيضا لانتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم تشكيل حكومة جديدة بحسب أحكام الدستور العراقي النافذ حالياً.

بالإضافة إلى ذلك، تم تشكيل ائتلاف آخر ضد تحالف إنقاذ. ويسمى هذا التحالف الإطار التنسيقي الشيعي ويتكون من تحالف الفتح وائتلاف دولة القانون وتحالف قوى الدولة وحركة عطاء وحزب الفضيلة. وبلغ العدد الإجمالي لنوّاب "الإطار التنسيقي الشيعي" المعروف بقربه من إيران 70 نائبا، هذا التحالف أخذ يعطل انتخاب رئيس الجمهورية من خلال التغيب عن جلسات البرلمان، من أجل كسر نصاب الثلثين الذي تشترطه جلسة انتخاب رئيس الجمهورية. التوازنات الجديدة في مجلس النواب لم تسمح لتحالف إنقاذ الوطن الذي يتكون من شيعة وسنة وأكراد بتشكيل حكومة في البلاد. وعلى إثر هذا الوضع، أعلن مقتدى الصدر الذي لم يستطع تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية التي ينادي بها، أنه سيذهب إلى المعارضة وأعطى الإطار التنسيقي الشيعي مهلة 40 يوما لتشكيل الحكومة. لكن الإطار التنسيقي الشيعي أيضا لم يتمكن من الوصول إلى العدد الكافي لتشكيل الحكومة. ورغم كل هذه التطورات المثيرة للجدل، أقر مجلس النواب وعلى رأسهم نواب التيار الصدري، موازنة "الدعم الطارئ للأمن الغذائي" التي تثار حولها الكثير من الشكوك، وباتت تعرف في الرأي العام بوصفها "تقاسم الغنائم" بين الأحزاب السياسية، وكادت أن تحل محل الموازنة المالية لعام 2022.

بعد هذه التطورات، استجاب نواب التيار الصدري لدعوة زعيمه مقتدى الصدر وقدموا استقالتهم إلى رئيس مجلس النواب في يونيو/ حزيران 2022. وفي الطرف المقابل، استغل "الإطار التنسيقي الشيعي" مسألة الاستقالات وأعلن اختيار وزير العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق محمد شياع السوداني، مرشحا لمنصب رئيس الوزراء في 25 يوليو/ تموز لتشكيل حكومة جديدة للبلاد. إلّا أن أنصار الصدر عارضوا ترشيح السوداني تحت ذريعة انه قريب من ائتلاف "دولة القانون" وزعيمه نوري المالكي، خصم التيار الصدري، وبدأوا احتجاجات في العاصمة بغداد في المنطقة الخضراء التي تضم العديد من الوزارات والسفارات، واقتحموا مبنى مجلس النواب. وأصبح من المستحيل عقد الجلسات في مجلس النواب الذي اقتحمه المتظاهرون. ومن الأمور التي زادت من حدة التوتر في السياسة وأضفت بعدا مختلفا للصراع السياسي، هي التظاهرات الاحتجاجية التي بدأت في يونيو/ حزيران إضافة إلى التسجيلات الصوتية لنوري المالكي التي تسربت إلى وسائل الإعلام واستهدف خلالها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.

استجاب الصدر لدعوات التهدئة التي أطلقها بعض القادة العراقيين، وطلب من أنصاره الانسحاب من مبنى مجلس النواب ومواصلة احتجاجاتهم خارج مبنى المجلس.

وعلى إثر تزايد العداء الشخصي والخلافات السياسية بين نوري المالكي ومقتدى الصدر، طالب الصدر القضاء بحل مجلس النواب قائلاً إن هذا المجلس قد انتهك كل التوقيتات والضوابط الدستورية، بتعطيل تشكيل الحكومة الجديدة بعد مرور أكثر من 10 أشهر على اعلان نتائج الانتخابات.

وحاول الصدر تقويض مجلس النواب وانذار القضاء ثم رئاسة الجمهورية من خلال احتجاجات أنصاره المتكررة. وربما يكون سبب تحركات التيار الصدري الأخيرة ومحاولته الظهور بصورة الخط السياسي الوطني واستقالة نوابه البالغ عددهم 73 نائبا، لأنه ما زال مصراً على قراره بعدم المشاركة في حكومة توافقية تتشكل وفق نظام المحاصصة التقليدية السائدة في العراق منذ 2003.

تسبب إعلان الصدر بشأن اعتزاله السياسة في 29 أغسطس/ آب وما تلاه من أحداث في العاصمة بغداد إلى مقتل 30 شخصا وإصابة نحو 400 آخرين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن قراءة اعتزال الصدر السياسة بعد يوم واحد من اعلان المرجع الديني المقيم في ايران كاظم الحائري اعتزاله من المرجعية وتوقفه عن اصدار الفتاوى الدينية، والذي كانت جماهير التيار الصدري تقلده وتتبع فتاويه، بسبب المرض وكبر السن –بحسب بيان اعتزاله-، بأن مقتدى الصدر ترك منصبه السياسي ليتفرغ للقيادة (المرجعية) الدينية.

يمكن اعتبار تصريح مقتدى الصدر الذي انسحب من المشهد السياسي أربع مرات في الفترة بين عامي 2013–2022، بمثابة مناورة سياسية. ولو نظرنا إلى مسيرة الصدر السياسية في سياق نتائج انتخابات عام 2021، لرأينا أن فرصة تشكيل حكومة بمفرده أتيحت له لأول مرة. لكن الإطار التنسيقي الشيعي الذي يحظى بدعم إيران، لم يسمح للصدر باستخدام هذه الفرصة. وهنا يجب القول إن الانتخابات المبكرة ومن ثم تشكيل حكومة جديدة وفقاً لعملية سياسية بضوابط وقواعد جديدة، فقط يمكنهما إيقاف المسار السياسي الخاطئ الجاري في العراق، نظراً لحالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

ابتعد الصدر عن السياسة واثقا ومعتمدا على ناخبيه وعاد إلى صفوف الشعب. وفي نفس الوقت فإن رئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية لا يرغبون في ابتعاد الصدر عن السياسة، لأنهم يعرفون أن بمقدرته توجيه الشارع متى ما يشاء. لذلك، من المحتمل جدا أن يشارك مقتدى الصدر في عملية الانتخابات مرة أخرى خلال الانتخابات المبكرة التي يتم الحديث عنها.

شارك التركمان بشكل فعّال في السياسة العراقية منذ عام 2003، وكانت القاعدة الرئيسة لحراكهم السياسي هو التأكيد على وحدة أراضي العراق. لكن، تم إبعادهم بشكل دائم من السياسة العراقية من قبل الحكومات المتعاقبة. ولم يتمكن التركمان من تحقيق النتائج المرجوة في المحافظات التي يعيش فيها أغلبية تركمانية في كل جولات الانتخابات التي جرت، بسبب عدة عوامل، أهمها الشكوك التي تثار حول نزاهة نتائج الانتخابات في مناطق التركمان.

من المتوقع أن يظهر تأثير العملية السياسية الجديدة التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية لعام 2021 مع تشكيل الحكومة الجديدة في عام 2022. لذلك، فإن المشاكل الحالية والخطط المستقبلية لتركمان العراق مرتبطة بتشكيل حكومة جديدة وتأسيس نظام سياسي جديد. وإذا تشكلت الحكومة الجديدة يشارك فيها كل مكونات العراق، فإن ذلك سينعكس إيجابا على التركمان. في واقع الأمر، دفعت الانتخابات البرلمانية لعام 2021 الزعماء السياسيين لأول مرة إلى الإعراب بقوة عن ضرورة تشكيل حكومة أغلبية وطنية في العراق. وفي هذا الإطار فإن الحكومة الجديدة المتوقع تشكيلها في هذا السياق مهمة للغاية فيما يتعلق بمستقبل التركمان في السياسة العراقية. لذلك، من الأهمية البالغة أن يصبح هنالك تمثيلاً حقيقياً للتركمان في الحكومة الجديدة المقرر تشكيلها، وهذا ما نصت عليه المبادرة التي طرحها مؤخراً 8 نواب تركمان فازوا بمقاعد في انتخابات 2021 بالاشتراك مع الجبهة التركمانية العراقية، وهذا مطلب رئيس لكل شرائح المجتمع التركماني. جدير بالذكر ضرورة طرح مسألة تمثيل التركمان في الحكومة بأكثر من وزارة بصفتهم من العناصر الثلاث الأساسية المكونة للشعب العراقي – بحسب ديباجة الدستور العراقي-.

لم يتمكن التركمان من إحراز تقدم حقيقي بشأن وضعهم على الصعيدين السياسي والأمني ​​وحقوق الإنسان في العراق. وانطلاقا من هذه النقطة فإن من الأهمية البالغة أن تضع الحكومة الجديدة المزمع تشكيلها بعض الاجراءات على جدول أعمالها. وهي التحقيق في قضية الضحايا التركمان الذين تم تعذيبهم على أيدي أنظمة مختلفة في العراق ثم عثر عليهم في مقابر جماعية، والتحقيق في مصير نحو 400 سيدة تركمانية تم اختطافهن في مدينة تلعفر من قبل تنظيم داعش الإرهابي بعد 2014، والعمل على حصول هؤلاء المظلومين على امتيازاتهم من السلطات العراقية، إضافة إلى السعي لتكون هذه القضايا على جدول أعمال المحافل الدولية.

دعا رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في 14 أغسطس/ آب 2022، جميع القادة السياسيين إلى اتخاذ قرار مشترك بشأن مستقبل العراق من خلال الحوار الوطني لإنهاء حالة عدم الاستقرار السياسي المتصاعدة في العراق. وكان من بين الذين تلقوا دعوة الكاظمي لحضور اجتماع الحوار الوطني، رئيس الجبهة التركمانية العراقية حسن توران ممثلا للتركمان. هذه الدعوة لاقت صدى إيجابياً على الساحة السياسية التركمانية. شارك في ذلك الاجتماع  كل من رئيس الوزراء، ورئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى والممثلة الخاصة للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت وزعماء الأحزاب السياسية. قدم حسن توران رئيس الجبهة التركمانية في ذلك الاجتماع مقترحاً لحل الأزمة، وجاء فيه: "نحن نرى أن تشكيل حكومة تشمل جميع القوى السياسية ويمكنها أن تحصل على موافقة الجميع سيساهم في حل الانسداد السياسي المستمر في العراق. وإذا لم يكن ذلك ممكنا، يجب بدء الجلسات البرلمانية وتغيير قانون الانتخابات، ثم إلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة الذهاب إلى انتخابات مبكرة". كما تم تقديم مقترح مماثل لمقترح الحل هذا من أرشد الصالحي النائب عن الجبهة التركمانية العراقية ورئيس الكتلة البرلمانية للتركمان في مجلس النواب العراقي.

اتفق المشاركون في اجتماع الحوار الوطني الذي لم يحضره ممثل التيار الصدري، على إجراء انتخابات مبكرة من أجل الخروج من معضلة الانسداد السياسي في العراق. وأشار بيان صادر عن الجبهة التركمانية العراقية حول الاجتماع، إلى أن مشاركة رئيس الجبهة التركمانية العراقية في الاجتماع جاءت تلبية لدعوة الكاظمي التي تؤكد دور التركمان في رسم خارطة طريق لحل لأزمة السياسية الراهنة وتدعم الدعوة إلى الحوار الوطني. يمكننا القول إن دعوة رئيس الجبهة التركمانية العراقية للاجتماعات الوطنية التي يتم فيها اتخاذ القرارات السياسية للعراق، تظهر أن التركمان أصبح لهم الآن رأي في المعادلة السياسية العراقية ويتم أخذها في الاعتبار. وفي الوقت نفسه، فإن مشاركة الجبهة التركمانية العراقية نيابة عن التركمان في هذا الاجتماع يمكن اعتبارها دليلاً على أن الجبهة التركمانية العراقية يتم التعامل معها كممثل لتركمان العراق.

إذا تم تحليل وتقييم هذه التطورات بشكل جيد، وإذا أتقن التركمان خططهم الاستراتيجية التي تخدم مصالحهم العامة في مجمل العملية السياسية، فيمكن أن يكون هنالك انعكاسات إيجابية على المجتمع التركماني فيما يتعلق بتمثيلهم في الدولة العراقية. ويمكن للتركمان الذين لم يتمكنوا من تحقيق النتائج التي يرغبون فيها وفقا لثقلهم السكاني في انتخابات 10 أكتوبر/ آب 2021، أن يحققوا النتائج المنشودة في حال التنظيم الجيد والتعلم من الأخطاء التي ارتكبت في الانتخابات السابقة. ومن الأهمية البالغة في هذا الإطار، أن ينحّي السياسيون التركمان صراعاتهم الشخصية جانباً ويوحدوا قواهم ويحافظوا على مصالحهم الوطنية في الانتخابات المبكرة المنتظر إجراؤها، وفي النظام السياسي الجديد الذي سيتبع هذه الانتخابات. ويأتي في مقدمة هذه المصالح الوطنية منح صفة "محافظة" إلى مدينتي طوزخورماتو وتلعفر التي يسكنهما أغلبية تركمانية، تعد تلعفر بأنها أكبر قضاء في العراق. وعلاوة على ذلك، فأن القوات التركمانية التي تأسست لحماية المناطق التركمانية من الهجمات الإرهابية التي كان ينفذها تنظيم داعش الإرهابي في 2014، يمكن دمجها في وزارة الدفاع العراقية، شأنها شأن "البيشمركة" القوات المسلحة للأكراد.

وفي هذه الحالة، يمكن للتركمان أن يحتلوا موقعا مهماً مؤثراً في المعادلة السياسية العراقية، ومغادرة وضع "الدفاع عن النفس وحماية حقوق المكون" التي تنتهجها الأطراف السياسية التركمانية منذ عقود، بسبب الاقصاء والتهميش والظلم الذي يتعرض له تركمان العراق. وبذلك، يمكن استعادة ثقة الناخبين التركمان في العملية السياسية، شأنهم شأن المجموعات العرقية الأخرى. كذلك يمكن أثر ذلك لملمة شتات المواطنين التركمان الذين ابتعدوا عن الأحزاب السياسية والجماعات التركمانية، نتيجة لعدم الاستقرار في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعراق، وكذلك نتيجة للصراعات بين السياسيين التركمان، وتوحيدهم تحت اسم الهوية الوطنية التركمانية، ضمن الهوية الكبرى العراقية.

من المهم في الانتخابات المبكرة المزمع إجراؤها أن يتم ترشيح أسماء يتمتعون بشخصية سياسية وثقافية قوية في المجتمع التركماني، والأهم من ذلك أن يكونوا ممن تدرّجوا داخل الأحزاب السياسية التركمانية.