انفجار مرفأ بيروت والحديث عن نظام سياسي جديد في لبنان

جاءَ الانفجار الهائل الذي دمّر مرفأ بيروت، ومعه أجزاء واسعة من العاصمة، ليضعَ لبنان أمامَ نفقٍ مجهول لا نعرف ما إذا كانت نهايتُه مظلمةً أم مضيئة.

في الرابع من آب/ أغسطس 2020 وقعَ الانفجار المزلزل ليخلّفَ وراءَه المئات من القتلى والجرحى وخسائرَ اقتصادية تقدر بمليارات من الدولارات الأميركية.

صوتُ دويّ الانفجار أيقظ َغضبَ اللبنانيين الذي استراح قسرياً في فترة الإغلاق العام بسبب جائحة كوفيد 19، موجهين أصابعَ الاتهام الى السلطات اللبنانية بكل فروعها السياسية والأمنية وكذلك الى حزب الله.

حيث عَلَت صرخةُ المواطنين اللبنانيين في تظاهراتٍ ابتدأت منذ أشهر ليسمعَها المجتمعُ الدولي، الذي بدوره فرض عزلةً للبنان دوليةً وعربيةً وعقوباتٍ اقتصادية أميركية. وقد انطلقت تلك الصرخة في وجه دولة هيكلُها ينخرُه الفساد، واللامسوؤلية، والإهمال، والمحصاصات، والإذلال والعتمة. كما مثلت تلك الاحتجاجات صرخة في وجه دولةٍ تحتضن دويلةً أغرقَتها في حروبِ المنطقة وربما في انفجار بيروت.

غداة الرابع من آب/ أغسطس 2020 سارعت الدول الى تقديم المساعدات الانسانية والعينية والمالية إلى لبنان، مع زيارةٌ للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كسرت "حصار لبنان" بحسب تعبير المسؤولين اللبنانيين.

في الشكل، زيارةُ ماكرون أتت لتعزية الشعبَ اللبناني، وليؤكدَ تضامنَ فرنسا والفرنسيين مع لبنان. أما في المضمون، فكرّر الرئيس الفرنسي ما ردّدته العواصم الغربية على الدوام: "نفّذوا الاصلاحات".

الرئيس ماكرون ذهب الى أبعد من ذلك، وتوجّه الى اللبنانيين قائلاً: "لدى فرنسا خريطة طريق لإعادة بناء النظام السياسي". والسؤال الذي يُطرح عن أيِ بناءِ لنظامٍ جديد يتحدث؟ وهل بات تحقيقُ الإصلاح والتغيير في السياسة والاقتصاد هو الخضوعَ الى هذه الدولة أو تلك أو إعادةَ كابوس الإنتداب؟ وماذا ينتظر لبنان بعد الانفجار واستقالة الحكومة؟ هل سيكون هنالك أيّ تغيير حقيقي في المشهد السياسي في لبنان؟

دعوة ماكرون إلى "تأسيس ميثاق جديد" و"بناء نظام سياسي جديد" أشار اليها بموافقة ضمنية رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، وقال: "نحن أمام تغييراتٍ وإعادة رؤية نظامنا القائم على التراضي بعد أن تبيّن أنّه مشلول، ولا يمكن اتخاذ قرارات يمكن تنفيذُها بسرعة".

ربما الانفجار سيُغير من قواعدَ اللعبة السياسية، التي تبدأ بالمساعي لتشكيل حكومة تحظى بتأييد شعبي ودولي، وتنتهي الى إعلانِ نظامٍ جديد للبنان في الذكرى المئوية على إنشاء دولة لبنان الكبير، بعد أن تكرست جمهورية الطوائف والمذاهب، التي لا يزال لبنان يرزح تحتها حتى الآن.

ولكن عن أي ميثاقٍ جديد يتحدث ماكرون ما لم يسبقه سحب سلاح حزب الله عن طاولة الحكم اللبناني، ووصد الباب أمام التمدد الإيراني في لبنان، فإيران سبق وقدّمت اقتراحَ المثالثة في مؤتمر "سان كلو" برعاية الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، إلا أن هذا الاقتراح جُوبه بالرفض من قبل كلّ السياسيين والذين يدورون في فلك البطريركية المارونية وثوابتها السيادية. فقد أعلن البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أنّ "البطريركيةَ تطالب بأن يكونَ كلُّ حلّ سياسي منسجماً مع ثوابت لبنان، ومع تطلعات اللبنانيين، وعلوية الوطن وهويته اللبنانية وانتمائه العربي وميثاقه الوطني".

وشدد الراعي في إحدى العظات، على ضرورة أن يحترم كلُّ حلٍّ الشراكةَ المسيحية - الإسلامية بما تمثل من وحدةٍ روحية وثنائية حضارية من دون تقسيم الديانتين وابتداع طروحات من نوع المثالثة، وما إلى ذلك. وقال "ثوابت لبنان كلٌّ لا يتجزَّأ. الانقلاب على جزءٍ هو انقلابٌ على الكل. إن المس بأسُس الشراكة هو مسٌّ بالكيان. ونحن متمسكون بالكيان وبالشراكة. إن تطوير النظام ينطلق من تحسين آليات العمل الدستوري والمؤسساتي لا من تعديل الأديان والشراكة المسيحية الإسلامية".

وموقف البطريركية المارونية ينسجم مع نداء دار الفتوى الذي يشدد على الشراكة المسيحية- الإسلامية وعلى رفض مبدأ المثالثة الذي طالما لوّح به حزب الله بإيعاز إيراني، ومن هنا يمكن القول إن فرضيةَ المثالثة سقطت عند الحديث عن نظام جديد للبنان لأنها لن تلقى الدعم الداخلي والخارجي.

فعلى ماذا يراهن ماكرون وما هي ورقته الذي سيفاوض بها حزب الله لجرّه ويقبل بنظام جديد؟

اليوم ثمة معادلة دولية كبيرة تُطرح: لبنان مقابل حزب الله. حزب الله بالمعنى العسكري والدور التوسعي الذي يلعبه في دول الجوار ولا سيما في سوريا والعراق واليمن وهنا يمكن أن يكون الطرح الفرنسي جدياً، حول تجنب الحديث عن سلاح حزب الله مرحلياً، في مقابل تنفيذ إصلاحات جدية وجذرية، وتطبيق سياسة الحياد.

وهذا يُستتبع بمؤتمر وطني برعاية دولية، على غرار اتفاق الطائف واتفاق الدوحة يبحث في إعادة تجديد الصيغة اللبنانية على أسس جديدة، يكون عنوانها: الدولة والدستور مقابل سلاح حزب الله. وهذا على ما يبدو مطلب دولي يتقدم، وعبّر عنه الرئيس الفرنسي بشكل أو بآخر.

ماكرون، الذي اجتمعَ بقادة الأحزاب اللبنانية، ومنها حزبُ الله ممثلاً برئيس كتلة " الوفاء للمقاومة" في البرلمان النائب محمد رعد في السفارة الفرنسية, في وقت تسعى فيه واشنطن الى التضييق على "حزب الله"  عبر فرض عقوباتٍ على شخصياتٍ وكياناتٍ تابعة له وإدراجه على لوائح الإرهاب ما أدى الى خنق لبنان اقتصادياً، عبر قانوني القيصر وماغنيتسكي، حاول الرئيس الفرنسي بحسب المعطيات، إلى تدجين حزب الله في تسويةٍ داخلية وربما إقليمية، بعدما أقنع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنّ لانهيار لبنان عواقب وخيمة، وبالتالي يجب منع لبنان من الانزلاق الى المحور الإيراني، لأن بذلك يُعتبر مكسباً لإيران ولأداته في لبنان "حزب الله"، والسؤال الذي يُطرح اليوم هل فعلاً أقنع ماكرون حزب الله بالتسوية، وما هي ورقته الرابحة؟ هل هو دليل دامغ في تورط حزب الله بتخبأة الأسلحة في مرفأ بيروت؟ وبالتالي يتحمل مسؤولية الانفجار، أم الحديث صراحة عن رفع الغطاء الدولي عن لبنان والتهديد بفرض عقوبات على حلفائه وبالأسماء وبالتالي رفع الغطاء المسيحي لحزب الله؟

لا أحد يخفي طموحات الرئيس الفرنسي في لبنان، وأن تلعبَ بلادُه دوراً جديداً في الشرق الأوسط، بدءاً من لبنان، إلاّ أن إعلامَ حزب الله (جريدة الأخبار اللبنانية) لمّحت الى أن لبنان تحوّل بزيارتي ماكرون ونائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي، الى ساحة جديدة للصراع والتنافس بين تركيا وفرنسا، ولاسيما بعد أن جرى حديث عن تفعيل مرفأ طرابلس، ريثما يعود مرفأ بيروت الى العمل مجدداً، والسؤال هنا هل فعلاً لدى تركيا طموحاتٍ توسعية في لبنان وهي التي لم تتدخل مرة في شؤونه الداخلية، لا وبل وقفت الى جانبه وساندت استقلاله وسيادته، وهي التي عبر منظماتها الإغاثية والانسانية أسعفت وساعدت المحتاجين بمسيحيه ومسلميه؟ أم أن حزبَ الله يحاول تشتيت اللبنانيين عبر خلق فكرة صراع فرنسي- تركي في لبنان ليزيح عنه غضب الشارع وأصابع الاتهام في جريمة تفجير بيروت؟ أم إنه يرسم الى جرّ لبنان لاختيار معسكر بين فرنسا وتركيا وبالتالي تحويل لبنان الى ساحة للمعسكرين يسهل فيها مرور ايران ليكون لها قدم على البحر المتوسط؟