قرار انسحاب بوتفليقة والسيناريوهات المحتملة

ارتبطت الجزائر طوعاً بالدولة العثمانية بقيادة بارباروس حيدر الدين باشا وأوروج ريس. وأصبحت واحدة من أهم القواعد في غرب البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا خلال الفترة العثمانية. وكانت تتمتع بالاستقلالية والقوة الكافية خلال هذه الفترة لدرجة أنها وقّعت اتفاقية مع الرئيس الأمريكي. وكانت ولاية الجزائر تحصل على حصة كبيرة من الزراعة والتجارة البحرية في ذلك الوقت. وأصبحت الجزائر أول أرض عربية تتعرض للاستعمار الغربي وذلك في عام 1830 جراء هذه الإمكانيات الكبيرة التي كانت تمتلكها. إلّا أنها في نفس الوقت لقّنت الاستعمار الفرنسي دروساً في المقاومة من خلال تقديمها مليون ونصف المليون شهيد.

ونالت الجزائر استقلالها في 1962 واتبعت سياسة خارجية مستقلة، إلّا أن فرنسا استعادت فعاليتها في الجزائر في الثمانينات. الانقلاب العسكري والفوضى السياسية الذي نتجت عن المحاولة الأولى للربيع العربي في نهاية 1991 تسبب في جرّ البلاد إلى حرب أهلية خطيرة. هذه الحرب الأهلية التي سقط فيها نحو 200 ألف شخص تسببت في تكاليف سياسية واقتصادية وإنسانية باهظة للجزائر. عبد العزيز بوتفليقة جاء إلى السلطة من أجل إيجاد حل لهذه الفوضى الناتجة في تلك المرحلة التي أُطلق عليها اسم "العشرية السوداء" (10 سنوات). قام بوتفليقة بعمل توازن بين المدنيين والعسكريين وتحقيق السلام الاجتماعي والاستقرار في بداية الألفية الثالثة ونجح من خلال اتخاذ عدد من الخطوات في تطوير البلاد. ولكن الجزائر بقيت تراوح في مكانها في السنوات العشر الأخيرة ولم تكن فعّالة بالشكل المطلوب على المستوى الدولي.

لم تتأثر الجزائر بالتحركات التي ظهرت بعد الربيع العربي الذي اندلع في أواخر عام 2010، لأن الثمن الباهظ الذي دفعته الجزائر في الحرب الأهلية في التسعينيات ما زال حاضراً في الأذهان ولم يُمسح بعد من الذاكرة. وإضافة إلى ذلك فإن الجزائر التي تعد إحدى دول النفط والغاز الطبيعي كانت قادرة على الحد من ردود الأفعال من خلال الدعم الذي قدمته لشعبها، رغم أنها واجهت مشاكل مماثلة لدول أخرى مثل الفقر والبطالة. وفي تلك الفترة وعد الرئيس بوتفليقة بإصلاحات سياسية واقتصادية، لكنه لم ينجح في الإيفاء بهذه الوعود. ولم يتمكن بوتفليقة من حل المشاكل المتراكمة وبقي عاجزاً أمامها بسبب كهولته ومرضه من ناحية ورفض الحكومات تحمل المسؤولية في السياسية الداخلية من ناحية أخرى. ورغم كل ذلك أعيد انتخاب بوتفليقة لولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية لعام 2014، وهذه لا تختلف كثيراً عن الانتخابات الحالية.

بوتفليقة الذي لم يظهر تقريباً خلال فترة ولايته الأخيرة إلّا قليلاً وحكومته فشلا في العديد من الملفات السياسية الداخلية والخارجية. فعلى سبيل المثال، لم يلعب بوتفليقة أي دور فعّال في حل الأزمة الليبية على الرغم من أن عدم الاستقرار في ليبيا يؤثر بشكل مباشر على الجزائر. كما أن انخفاض أسعار النفط والغاز التي شهدتها السنوات الأخيرة أثّر بشكل سلبي على ميزانية الدولة واقتصادها ما أدى إلى ازدياد الفساد وارتفاع نسبة البطالة. التشاؤم الذي يعم الجزائر المنطقة الجغرافية الواسعة التي يعتبر ثلث سكانها تقريباً دون الثلاثين من عمرهم إضافة إلى عدم ظهور الرئيس زاد من مطالبة الشعب برئيس جديد يتحمل المسؤولية. تسببت رغبة الرئيس بوتفليقة في الترشح لولاية خامسة في ازدياد ردود الأفعال والتحرك لتتحوّل إلى احتجاجات شعبية.

يبدو أن ثقة قوات النظام بعدم تأثر الجزائر بالربيع العربي الذي انطلق في عام 2011 تسببت في عدم استعدادهم للاحتجاجات الجارية في البلد، لكن في نفس الوقت هي تريد مواصلة الامتيازات التي تمتلكها وعدم الدخول في صراع مع المحتجين. ويلاحظ أن قوات النظام واجهت صعوبة كبيرة في تطوير سياسة تتعامل مع الاحتجاجات، ويبدو أنها لا تملك فكرًا لأي حل أو انفتاح ولا ترغب في تغيير ما هي عليه. وذلك وضح جليّاً عندما وصلت المظاهرات إلى بعد خطير وأعلن بوتفليقة من خلال المتحدث باسمه أنه سيترشح لولاية خامسة، وفي حال إعادة انتخابه وعد بأنه سيبقى عاماً واحداً فقط في الحكم وسيغّير النظام السياسي للبلد. لكن هذه التصريحات لم تطمئن الشعب ولم تنجح في امتصاص ردود أفعاله، لأن الشعب لا يرى أي إمكانية أو احتمال في تغيّر النظام القديم للبلد.

السبب في الإصرار على القانون الحالي الذي تم تغييره قبل 1520 عاماً من أجل السماح لبوتفليقة في الترشح مرة أخرى لا يلبي احتياجات الطبقة الوسطى الناشئة وقطاع العمل في البلد. ويعتقد أن مجموعات النخبة أيضاً لم تتوافق فيما بينها على ترشح بوتفليقة. هذه المتغيرات إضافة للشرائح الواسعة للشعب التي نزلت إلى الشوارع من أجل الاحتجاجات تسببت في عجز النظام السياسي الجزائري في إيجاد التوازن داخله علاوة على فشله في طرح حلول لتهدئة الشعب وإنهاء الأزمة. النظام القديم المغلق الذي يسير مع المحور الفرنسي لا يتلاءم مع التغيرات الجارية في الجزائر والمنطقة في هذه المرحلة (مثل الربيع العربي وتعزيز العلاقات مع الصين والولايات المتحدة وتركيا).

دعت بعض المجموعات المتظاهرة إلى تنفيذ عصيان مدني في البلاد وعدم الذهاب للعمل لاسيما الذين يعملون في القطاع الحكومي. وفي الوقت نفسه قامت الحكومة التي ربما كانت تخشى من اتساع رقعة المظاهرات الخطيرة ووصولها للجامعات بإغلاق المدارس لمدة شهر. ومن جانب آخر أعلن نحو ألف قاضٍ أنهم لن يشاركوا في إدارة العملية الانتخابية في حال ترشح بوتفليقة لولاية أخرى.

أعلن تصريح باسم بوتفليقة نشر يوم أمس (11 مارس/ آذار) أنه لن يترشح لولاية خامسة وأن الانتخابات تم تأجيلها وأنه سيتم تشكيل حكومة تكنوقراط بعد استقالة رئيس الوزراء أويحيى. وأضاف التصريح أن بوتفليقة عيّن وزير الداخلية السابق نور الدين بدوي رئيساً جديداً للوزراء، وأن بوتفليقة سيستمر مع طاقمه وسيبقى في السلطة حتى الانتخابات الرئاسية وسينشئ مؤتمراً انتخابياً مستقلاً. لكن من الناحية العملية، لا يبدو هذا مختلفاً تماماً عن تصريحه السابق الذي وعد فيه بالبقاء في الحكم عاماً واحداً. لأن هذه المرحلة قد تستغرق 6 أشهر أو عاماً واحداً وبدون شرعية قانونية أيضاً. الشباب الذين يحتجون على المرحلة المقبلة ومستقبل الجزائر هم الذين سيحددون ردود أفعال النظام من خلال إصرارهم الذي سيظهرونه في الساحات والشوارع.

ليس من السهل إيجاد رئيس وزراء مدني توافق عليه فرنسا التي لها تأثير كبير على الجزائر ويوافق عليه الجيش وفي نفس الوقت يقبله الشعب، ولو وجِد مثل هذا الشخص فلن يواجهوا صعوبة كثيرة في اختياره. إن قوة وفعالية المظاهرات التي ستجري في الأيام المقبلة ستكشف عمّا إذا كان الشعب مستعدًا لقبول هذه المرحلة الانتقالية المخطط لها أم لا. بعض رجال القانون يناقشون هل قيام بوتفليقة بتأجيل الانتخابات بدلًا من الانسحاب من الترشح للانتخابات مخالف للقانون أم لا، كما أنهم يناقشون شرعية تعيينات بوتفليقة الحالية لأن فترته الرئاسية ستنتهي في أبريل/ نيسان.

ومع أن المظاهرات في الجزائر نجحت في إزعاج النظام وزعزعته إلا أنه يبدو أن المظاهرات أو المعارضة في الشوارع ليس لها قائد محدد. وهناك مشكلة ثقة حقيقية بين المتظاهرين والمعارضة بسبب أن أحزاب المعارضة الموجودة في البلد منخرطة أو متشابكة مع النظام. وإضافة إلى عدم توقع تفاعل الشعب بهدوء مع هذه التطورات، فإن النظام سيواصل إملاءاته وفرض أجندته التي يريدها في حال كان الهدوء من شأنه إضعاف سرعة وحجم الاحتجاجات. وقد يفتح هذا الوضع أبواب مرحلة أكثر فوضوية في البلاد.

وعلى الرغم من أن التطورات في الجزائر لا تتصدر أجندة الأحداث في العالم إلّا أنها مهمة على المستوى المحلي والإقليمي. لأن الجزائر التي لديها مساحة جغرافية واسعة للغاية تمتلك أيضاً موارد طبيعية ضخمة مثل الذهب واليورانيوم إضافة إلى النفط والغاز الطبيعي. وهناك عراقيل كبيرة توضع لمنع استقلال الجزائر والتحولات الديمقراطية فيها لأنها تمتلك ميزات هامة تجذب انتباه العديد من المستثمرين واللوبي الأجنبي. إن تحوّل الجزائر إلى بلد ديمقراطي بالمعنى الحقيقي سيؤثر أيضاً على المنطقة المجاورة. موقف الجزائر الواضح والصريح تجاه الاحتلال في القضية الفلسطينية سيكون مهماً جداً للسلام والاستقرار في شمال إفريقيا وغرب البحر الأبيض المتوسط. وإضافة لذلك فإن حكومة أكثر ديمقراطية في الجزائر ستكون في وضع يمكنها من تجاوز الاختلافات والصراعات مع المغرب. إن من الطبيعي أن يبدي الجميع اهتمامه بالتحولات الديمقراطية في مثل هذا البلد المهم. وسيحدد تعامل وتواصل قوى النظام مع المتظاهرين مستقبل الديمقراطية في البلاد.

هذا المقال تم نشره في موقع وكالة الأناضول للأنباء في 12 مارس/ آذار، بعنوان " قرار انسحاب بوتفليقة والسيناريوهات المحتملة".