مئة عام من إعلان "لبنان الكبير"... هل نجح لبنان ببناء دولة؟

لم ينشأ لبنان من ثقافة واحدة أو من عرق واحد، بل كان مزيجاً من ديانات وحضارات متنوعة، أُسقي ترابَه ثقافةً وإيماناً ليشبه "التبولة"، سفيرة المطبخ اللبناني الى العالم بمكوناتها العديدة والغنية.

بلغ لبنان الكبير مئة عاماً إلا أن علّته وعاهتَه التي رافقته على مدى عقود هي نظامه السياسي الطائفي، الذي أدى الى تقاسم الدولة بين الطوائف، ومن ثم الى احتدام الصراع فيما بينها على حجم الحصص التي تعود الى كل منها، بل وإلى أبعد من ذلك حيث عمد البعض الى تغيير هويته ورسالته.

مطبّات محليّة ومستوردة عديدة، عاشها لبنان واللبنانيون ليتحوّل إلى ساحة للصراع الداخلي وإلى ساحة لتصفية حسابات الدول فيما بينها. والثغرة واحدة: غياب مفهوم المواطنة، وتكريس الانتماء الطائفي منذ إعلان دولة لبنان الكبير وحتى من قبل.

مئة عام على ولادة لبنان الكبير، واللبناني لم يزل يترنح ضمن الاصطفافات بين الشرق والغرب. ففي 1 أيلول/ سبتمبر عام 1920 وفي قصر الصنوبر في بيروت، أعلن الجنرال الفرنسي غورو قيام دولة لبنان الكبير وبيروت عاصمة لها، ووُصفت الدولة الجديدة باسم "لبنان الكبير" على أساس إضافة مدن الساحل والبقاع وطرابلس والجنوب وسهل عكار، إلى المنطقة التي عُرفت تاريخيًا بـ "متصرفيّة جبل لبنان" ذاتية الحكم، لتبلغ مساحة لبنان 10452 كلم2.

والسؤال هنا: مع اتساع مساحة لبنان الجغرافية، هل نجح الإعلان في أن يكون للبنانيين نظرة مشتركة لبناء الدولة؟

 التجارب أثبتت على مدى عشرة عقود أن اللبناني لم ينجح بخلع عباءة الطائفة أو الزعيم، بل كان يغوص في واحة الخوف من الآخر وفي بحر من الانقسامات، فلا عجب أن تسمع أو تقرأ أحد الخطابات الطائفية من رئيس كتلة نيابية، لتفهم الانحدار في الخطابات السياسية الشعبوية، فعلى سبيل المثال يقول النائب جبران باسيل رئيس كتلة "التيار الوطني الحرّ" (كتلة من نواب أغلبيتهم مسيحيين): "أنا لست مضطراً أن أقنع أحداً، السنية السياسية جاءت على جثة المارونية السياسية وأخذت كل حقوق المسيحيين، وهو أمر طبيعي أن أسعى لاستعادتها".

تناقضات اجتماعية ومناكفات سياسية عاشها اللبنانيون على مدى عقود أدّت الى معارك وحرب أهلية راح ضحيتها أكثر من مئة وخمسين ألف شهيد، وآلاف من الجرحى والمفقودين والنازحين، نسردها وفق ترتيب زمني لعلنا نتعظ كلبنانيين وكشعب ننتمي إلى هذه المنطقة من أخطاء أجدادنا وأخطائنا نحن.

بدا الانقسام واضحاً مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بين مشروع الأمير فيصل لإنشاء دولة عربية تضم لبنان، رحب بها المسلمون، وبين المشروع الماروني الذي يريد لبنان الكبير، والذي بحسب المؤرخين كانت نتيجة جهود البطريرك الماروني الياس الحويك الذي فوّضه اللبنانيون ليتوجّه باسمهم إلى مؤتمر الصلح، الذي عُقد في قصر فرساي في باريس مطالبًا باستقلال لبنان، وبين مشروع الروم الأرثوذكس الذي كان يتلاقى مع الموقف الإسلامي السنّي المؤيد للحكم الفيصلي، على أن يبقى وضع المسيحيين في الدولة العربية كما كان عليه في العصر العثماني.

هذا الانقسام انسحب الى حقبات سياسية ترسخت في ذاكرة اللبنانيين، ثورة 1958 كانت "بروفة" أو تمرين لحرب 1975، فلبنان كان مهدداً بحرب أهلية بين المسيحيين والمسلمين حين بدأ التوتر مع مصر في عام 1956، عندما رفض الرئيس كميل شمعون-المسيحي-قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية، التي هاجمت مصر أيام أزمة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، وهذا أثر في الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وزادت التوترات أكثر عندما أعلن كميل شمعون تقرّبَه من حلف بغداد، والذي اعتبره عبد الناصر تهديداً للقومية العربية. وعند قيام الوحدة بين مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة سنة 1958، دعم رئيس الوزراء اللبناني السني رشيد كرامي عبد الناصر في 1956 و1958، وهذا ما دفع اللبنانيون المسلمون الطلب من الحكومة الانضمام للوحدة العربية، بينما أراد المسيحيون التحالف مع الدول الغربية، وحصل تمرّد إسلامي مسلح حصل على السلاح من الجمهورية العربية المتحدة عن طريق سوريا، مما دفع كميل شمعون لتقديم شكوى لمجلس الأمن في الأمم المتحدة، لكن محققو الأمم المتحدة أعلنوا عن عدم وجود أي دليل على تدخل الجمهورية العربية المتحدة.

في 14 تموز/ يوليو 1958 سقطت الحكومة الموالية للغرب في العراق، فحدث عدم استقرار داخلي في لبنان، طلب عندها شمعون المساعدة من أمريكا، فاستجاب الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور لطلب شمعون، وسميت العملية بـ"الخفاش الأزرق"، وكان هذا أول تطبيق لمبدأ أيزنهاور الذي أعطى الحق لأمريكا بالتدخل في الدول المهددة من الشيوعية، وكان الهدف من العملية دعم حكومة كميل شمعون الموالية للغرب المهددة من سوريا ومصر، وشارك في العملية 14000 جندي أمريكي من الجيش والمارينز، ونجح وجود القوات الاميركية في قمع المعارضة، وبعدها بعث الرئيس أيزنهاور الدبلوماسي روبرت د. مرفي للبنان ليُمثله، حيث أدى ميرفي دوراً مهماً في اقناع الرئيس كميل شمعون بالاستقالة، وانتخاب قائد الجيش (المسيحي) فؤاد شهاب بدلاً منه بالتوافق مع جمال عبد الناصر.

كان عهد فؤاد شهاب عهد المؤسسات والإصلاحات، ومن حسن الحظ أن المسلمين اللبنانيين والطوائف المسيحية الأخرى كانوا يحترمون استقامته ونزاهته.

كانت ثورة 1958 مقدمة لحرب أهلية أجّلها "اتفاق القاهرة" عام 1969 لست سنوات، وهو الاتفاق الذي جاء لغرض تنظيم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، فقام الرئيس اللبناني آنذاك شارل حلو بإرسال وفد لبناني برئاسة قائد الجيش إميل بستاني إلى القاهرة للتفاوض مع ياسر عرفات وتحت إشراف وزير الدفاع المصري محمد فوزي ووزير الخارجية المصري محمود رياض، وخرج الاتفاق بنتائج كان من أهمها تنظيم العلاقة اللبنانية – الفلسطينية، والسماح للمقاومة الفلسطينية بإقامة قواعد عسكرية في الجنوب اللبناني وخاصة في منطقة العرقوب والقطاع الأوسط والشرقي، وممارسة العمل السياسي داخل المخيمات.

سبقت الحرب الأهلية اللبنانية أزمات بنيوية، وأسباب متصلة بموقع لبنان الإقليمي وتحوله إلى ساحة صراع، ويُمكن إيجاز هذه الأسباب في وجود عوامل سياسية طائفية يجسدها انقسام بين مطالب المسلمين والمسيحيين، وعوامل خارجية محورها قضية المقاومة الفلسطينية والكفاح المسلح وخطر التوطين.

ترتب على الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً التهجير والفرز الديني والمناطقي، وقد قدر ضحاياها بـ150 ألف قتيل، و300 ألف جريح ومعاق، و17 ألف مفقود. وهُجّر بسببها أكثر من مليون نسمة كما قدرت خسائر الحرب بنحو 25 مليار دولار أمريكي.

 يقول الكاتب والمفكر اللبناني ميخائيل نعيمة: "الحرب لو يعلمون لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضاً"، فمرّت سنوات من القتل، الخوف، الجوع، الفقر، الضغينة والذبح على الهوية، حتى جاء يوم "اتفاق الطائف" ليضع حدّاً لحرب المدافع وليس لحرب النفوس والطائفية.

"اتفاق الطائف" والمعروف أيضاً باسم "وثيقة الاتفاق الوطني" لم ينجح في تطبيق إلغاء الطائفية السياسية، لا بل أصبحت كدولة عميقة داخل بنية الدولة اللبنانية.

وكان الجيش السوري قد دخل لبنان تحت غطاء قرارات الجامعة العربية، وبمباركة عربية ودولية، في كانون الثاني/يناير 1976، بينما كانت نار الحرب الأهلية مستعرة لمدة عام فقط (أي عام 1975)، ليضع حدًّا للحرب الأهلية والنزاع العسكري القائم، وليعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب، إلا أنه بعد "اتفاق الطائف" أصبح لسوريا نفوذاً كبيراً في لبنان، خصوصاً بعد أن أتمت سيطرتها على هذا البلد، ففرضت على لبنان سنة 1991 معاهدة "الأخوة والتعاون والتنسيق" لتضفي شرعية على وجودها العسكري في لبنان، ونصت المعاهدة على أن لا يكون لبنان مصدر قلق لسوريا، وأعطى سوريا مسؤولية حماية لبنان من التهديدات الخارجية، وفي أيلول من تلك السنة وقّع لبنان وسوريا اتفاقية الدفاع والأمن بين البلدين، وأصبحت سورية هي صاحبة النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب، كما أُعطيت حق الوصاية على لبنان.

 بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان وموت حافظ الأسد سنة 2000، واجه الوجود العسكري السوري انتقادات ومعارضة شديدتين من اللبنانيين، حيث لم يعد الاعتراض حكراً على المسيحيين، بعد أن قامت شخصيات ديمقراطية ويسارية بتأسيس المنبر الديمقراطي، وطالبت بتصحيح مسار العلاقات اللبنانية – السورية، ولا سيما أن لا أحد يجهل ممارسات النظام السوري في لبنان من اغتيالات وسجن وتلفيق ملفات لكل من يعارض وجوده في لبنان، ما أسفر عن انقسام الشارع اللبناني مجدداً بين من يعارض ما أسموه بـ "الاحتلال السوري" وبين من استفاد من وجوده ليكتسب مغانم سياسية ومالية، وانتهى الوجود العسكري السوري في لبنان يوم 26 نيسان/ أبريل 2005 إثر اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري يوم 14 شباط/فبراير 2005.

هذا الانقسام امتدّ إلى حين وقوع الزلزال الكبير: اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير2005، مع 21 شخصاً في انفجار استهدف موكبه في وسط بيروت.

وسبق اغتيال الحريري سنوات من الإعمار والازدهار الاقتصادي، وأيام من توتر لم يكن ظاهراً كثيراً للعلن بين الحريري وسوريا، وكان الحريري يومها يستعد لخوض انتخابات نيابية، ويقترب من الانخراط في جبهة معارضة لدمشق تمثلت بلقاء "قرنة شهوان" وغيره من الأحزاب المعارضة. وبعد الاغتيال وجهت أصابع الاتهام على ألسنة سياسيين وأحزاب معارضين للوجود السوري إلى النظام السوري.

 في 14 آذار/ مارس 2005، نزل مئات الآلاف الى الشارع يهتفون بشعارات ضد نظام الأسد، ويطالبون بخروج القوات السورية من لبنان، لكن في غضون ذلك كان حزب الله -حليف الأسد- دعا الى "يوم وفاء" لسوريا في 8 آذار/ مارس شارك فيها أيضاً مئات الآلاف. ومنذ ذلك التاريخين وفي ظلّ سلسلة عمليات اغتيال طالت شخصيات من 14 آذار، انقسم الشارع اللبناني عامودياً بين معسكرين 8 و14 آذار، وانعكس ذلك على المشهد السياسي والحياتي، وعلى العلاقات مع الدول العربية والخليجية والدولية، كذلك شل الحكومات المتعاقبة في المحاسبة ومكافحة الفساد.

أعقب زلزال اغتيال الحريري أحداث سياسية وأمنية واقتصادية هزّت الاستقرار اللبناني، وكرّست الانقسامات في نفوس اللبنانيين، ففي 6 شباط/ فبراير 2006، اتفقت الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة على تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ما دفع فريق 8 آذار إلى رفضها وعدم الاعتراف بها، معلّلاً ذلك بأن المحكمة أقيمت لمواجهة وترويض فريق ما يسمى بالممانعة وعلى رأسه "حزب الله"، الذي ثبت تورطه بجريمة اغتيال الحريري بحسب أدلة المحققين الدوليين.

وفي 12 تموز/يوليو من عام 2006 اندلعت حرب شرسة بين "حزب الله" وإسرائيل استمرت 34 يوماً، وانقسم الشارع اللبناني بين من أعتبر أن حزب الله أقحم لبنان في حرب طائشة دفع ثمنها اللبنانيون من شهداء وجرحى وبنية تحتية، وبين من كان مؤيداً لمغامرة حزب الله وأعطاها شرعيةً.

وفي 7 أيار/مايو 2007، عاد الى أذهان اللبنانيين مشهد الحرب الأهلية، فإثر صدور قرارين من مجلس الوزراء اللبناني بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لحزب الله، وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، اندلعت مواجهات مسلحة بين عناصر من "حزب الله" من جهة، وتحالف 14 آذار من جهة ثانية أبرزهم "الحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل"، لتوقع عشرات القتلى، حتى جاء اتفاق الدوحة ليضع حدّاً لتلك المواجهات.

 تداعيات الحرب في سوريا انعكست على المشهد السياسي المنقسم داخل لبنان، فمع بداية الثورة السورية انغمس "حزب الله" الموالي لإيران في الحرب الأهلية السورية عام 2013، ليشارك الى جانب نظام الأسد بمعارك ضد المعارضة، وزاد تدخل الحزب في سوريا من حدة الانقسامات داخل المجتمع اللبناني نفسه أيضاً ولا سيما بين السنّة والشيعة.

كل هذه الأحداث تزامنت مع تفكك إقليمي وصراع طائفي واندلاع للثورات العربية أغرقت لبنان أكثر في وحل الاصطفافات والانقسامات والتبعيات لمحاور عربية وإقليمية (السعودية/ إيران)، ما انعكس سلباَ على الأداء السياسي للحكومات المتعاقبة التي ولدت دائماً بعد مخاضات عسيرة: ثلث معطل، البيان الوزاري، توزيع الحقائب، وأسماء الوزراء، كل هذا كان كفيلاً بتأخير تأليف الحكومات لأشهر عديدة وصلت إلى حد 11 شهراً عندما تولى تأليف الحكومة تمام سلام.

وبعد سرد كل هذه الأحداث التي بينّت الانقسامات التي عاشها لبنان، كان اللبنانيون يرزحون تحت وضع اقتصادي صعب، حيث شهد الوضع الاقتصادي تراجعاً حادّاً في بعض الأحيان متأثراً بالأزمات السياسية المتلاحقة. فلبنان لم يغب عن ثورات الربيع العربي، "كلن يعني كلن" بهذا الشعار نادى الشعب اللبناني مشيرًا إلى النُخب السياسية الفاسدة سياسياّ واقتصادياً، مصوّباً على نظام طائفي بغية تفكيكه.

فبعد مئة عام على إعلان لبنان الكبير وبالرغم من بعض السنوات المضيئة التي مرت عليه، يسأل المتابعون للوضع اللبناني: هل سينجح اللبنانيون ببناء دولة متماسكة متكاتفة غير أبهة بالصراعات الإقليمية والدولية؟ هل سينجحون بإيجاد عقد اجتماعي جديد؟ وكيف؟ عبر مؤتمر تأسيسي دعا اليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أو عبر الحياد الذي دعا اليه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي؟

الكاتب والمفكر اللبناني نزار يونس يقول في كتابه "جمهوريتي": "أحب لبنان، وطننا الذي ندّعيه، ولم نع بعد دوره ولا أدوارنا فيه، وأحب أن أحلم بجمهورية على قياس حبّي لهذا الوطن." فهل سننجح ببناء دولة قوامها الحب والاحترام والحرية؟