الجزائر: دينامية الحراك السلمي لعام 2019 ورهانات التغيير والاستقرار

 خرج الناخبون الجزائريون للمرة الرابعة إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم خلال عامين؛ بعد الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019، التي تلتها تصويت تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2020 للاستفتاء على وثيقة دستور، ثم الانتخابات النيابية المبكرة في شهر 23  حزيران/ يونيو 2021 ، وأخيراً جاءت الانتخابات المحلية المبكرة التي جرت في 27  تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. تشمل الانتخابات المحلية في الجزائر انتخاب أعضاء مجالس الولايات (المحافظات) وأعضاء مجالس البلديات (الأقضية) التي تتكون منها هذه الولايات في آن واحد. هذه الانتخابات المحلية تعد آخر محطة لمسار الإصلاح السياسي الذي وعد به الرئيس عبد المجيد تبون الجزائريين. وطويت بإجرائها "عملياً" صفحة منظومة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد لعقدين كاملين 1999-2019. جرت هذه الانتخابات خلال ظروف صحية استثنائية بسبب جائحة COVID-19  وأوضاع اقتصادية صعبة وتوترات إقليمية تحيط بالجزائر من كل الجهات.

 نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية: بارقة أمل
 فاقت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات المحلية المبكرة التوقعات في هذه المرة، مقارنة بالتصويتات السابقة. حيث أعلن رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي عن الإحصاءات المتعلقة بهذه الانتخابات المحلية المبكرة في مؤتمر صحفي بقصر المؤتمرات بضواحي العاصمة، وذكر أن نسبة المشاركة في انتخابات مجالس الولايات وصلت 36.58%، حيث اشترك في 7.514.422   ناخب في التصويت، 6.377.684   منهم اعتمد تصويتهم، و 1.136.738 منهم اعتبرت أصواتهم ملغاة. وفي نفس السياق، بلغت نسبة المشاركة في انتخابات مجالس البلديات وصلت 34.76%، اشترك فيها 6.902.222  ناخب، 5.561.357 منهم اعتمد تصويتهم، و 1.340.865 منهم اعتبرت أصواتهم ملغاة. وهذا يعد تحسن في نسبة المشاركة في التصويت، مقارنة بالانتخابات التشريعية الأخيرة التي وصلت نسبة المشاركة فيها 23%.

إن خصوصية هذه الانتخابات المحلية من الناحية القانونية أتت عبر المادة 187  من قانون الانتخابات، التي أصبحت أداة  لمحاربة الزبونية السياسية والانتهازية. مما أدى إلى إقصاء أسماء قوائم أحزاب لها وزنها في الحياة السياسية بذريعة شبهة المال الفاسد. أو بما يعرف بالعامية الجزائرية بأصحاب "الشكارا والبڤارا". كما برز في هذه الانتخابات مشاركة الشباب المتعلم في مجريات هذه الانتخابات. وبانضمام هذين العنصرين إلى معادلة الحراك السياسي الذي أفرزته دينامية حراك 22  شباط/ فبراير/ فيفري 2019  بوصفها منافس قوي للأحزاب التقليدية مثل حزب جبهة التحرير الوطني، ومنافسه/ حليفه حزب التجمع الوطني الديمقراطي، حيث كانت هذه الأحزاب تعد العمود الفقري للتحالف الرئاسي لمنظومة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة والأوليغارشيا. كما أن هناك عامل ديموغرافي هام ساهم في رفع نسبة المشاركة واضفاء المشروعية على هذه الانتخابات، حيث تجاوزت نسبة المشاركة في ولايتي بجاية وتيزي-وزو في هذه الانتخابات المحلية نسبة 18 % مقارنة بعزوف تام للناخب في هذه الولايات عن المشاركة في الاستحقاقات الثلاثة السابقة. كان ذلك تعبيراً عن أغلبية يمتلكها حزب القوى الاشتراكية أقدم حزب معارض للسلطة منذ تأسيسه عام 1963  في المجالس المحلية في ولايتي تيزي-وزو وبجاية، أكبر ولايتين في منطقة القبائل شمال شرق الجزائر.

مشاركة حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وحتى حزب العمال في هذه الانتخابات المحلية المبكرة، تعد رسالة صريحة من السلطة لمتتبع الشأن الجزائري في الداخل والخارج، فبالرغم من أن حراك 22  شباط/ فبراير/ فيفري 2019  أنتهى مع انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون في 12  كانون الأول/ ديسمبر في نفس السنة، إلا أن هذه الأحزاب ذات التوجه العلماني اليساري تقدم نفسها بوصفها التيار الرافض لخارطة طريق التغيير والانتقال السلمي للسلطة التي أدارتها السلطات الجزائرية المدنية والعسكرية إستجابةً لحراك 22  شباط/ فبراير/ فيفري 2019 .

كل هذه المعطيات كانت حافزاً كبيراً دفع الناخب الجزائري للذهاب إلى صناديق الاقتراع، وبعث بشعاع أمل في نفوس الجزائريين عموماً. قد يضيف المحللين للشأن السياسي في الجزائر عامل الوطنية Patriotism الذي كان هو الأخر حافزاً نفسياً مهماً للأقبال الشعبي على المشاركة في التصويت في ظل محيط إقليمي مشحون بالتوترات والأزمات. فضلاً عن أحداث حرائق الصيف الماضي بولايات شمال شرق العاصمة الجزائر ذات الأغلبية الأمازيغية (القبائل) وظهور عناصر الحركة الإنفصالية الإرهابية (الماك (MAK كعامل مهدد للوحدة الوطنية. لكن يبقى دور الأحزاب السياسية ضعيفا على العموم حيث لم يستطع أي حزب خلق سلوك سياسي عصري، يتماشى مع ذهنية وفكر منهجية الإدارة والمتابعة وحتى المراقبة في جزائر عصرية، كما عبّر عنه الرئيس عبد المجيد تبون.

لا يزال الناخب الجزائري يعبر عن رأيه بحذر تجاه الساسة والشؤون السياسية؛ إلا أن القوائم المستقلة والمفتوحة أدت دوراً محورياً، حيث خلطت أوراق الأحزاب السياسية التي حاولت هي الأخرى أن تتقمص نهج التغيير والتجديد، مراهنة على إعطاء دور لعناصرها الشابة وتأهيلها.

 تصدر حزب جبهة التحرير الوطني النتائج الأولية للانتخابات المحلية 2021، فقد حصل على 5978  مقعد، حيث حصد الأغلبية في 124 بلدية ضمن 42 ولاية، وحصل على الأغلبية النسبية في 552 بلدية ضمن 55 ولاية. بقاء حزب جبهة التحرير في صدارة المشهد السياسي في الجزائر، بالرغم من آليات التغيير والانتقال السلمي للسلطة في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، يعود إلى قوة الحزب اللوجستية وتوغله داخل المجتمع والإدارة في الجزائر منذ عام 1964.

التجديد مع الاستقرار
كان الهدف الرئيس من تبكير موعد الانتخابات المحلية وتجديد مجالس الولايات والبلديات، هو الدفع نحو بناء دولة مؤسسات صلبة ومتجانسة، بإدارة واقتصاد قويين، والبحث عن إستراتيجية مستقبلية تجسد مفهوم التنمية المحلية، ومبدأ الديمقراطية الأفقية، لإعادة ثقة الناخب مع مرشحيه من جهة، والحد من الصراع الدائم بين السلطة محلياً ووطنياً والمواطن من جهة ثانية، حيث أصبح المواطن الجزائري لا يثق بأي مرشح، وفي ظل غياب المنافسة النزيهة والأفكار والبرامج الناجعة على جميع الأصعدة؛ تبقى جدية الثقافة السياسية عند الناخب الجزائري رهن المصلحة الخاصة لدى بعض المرشحين، وعدم الإدراك الواسع لمفاهيم المواطنة والحس المدني civic awareness، حيث مازال الناخب الجزائري ينظر إلى مجالس الولايات والبلديات من منظور يجمع بين مصالح الحالة المدنية والخدمات الاجتماعية والمحسوبية.

يرجع سبب هذا التحجر الفكري للثلاث عقود الماضية، التي ضربت عمق نسيج المجتمع الجزائري نخبةً وجماهيراً؛ مما أدى إلى عدم استقرار اجتماعي بسبب السياسات العامة للحكومات المتعاقبة منذ 1995، التي كانت تتسم بعناد السلطات السابقة وسياساتها في الهروب إلى الأمام المجهول، مما دفع بخروج ملايين الجزائريين في حراك 22  شباط/ فبراير/ فيفري 2019  ضد ترشيح الرئيس الراحل لعهدة خامسة.

وقد أفرز حراك 22  فيفري آليات التغيير والانتقال السلمي للسلطة من خلال نتائج و إرادة الإدارة الجديدة في الجزائر المقبولة رغم التحفظ المشروع للناخبين خلال المواعيد الانتخابية الثلاثة السابقة. وهذه ثالث انتخابات تجري في عهد الرئيس عبد المجيد تبون الذي تعهد بتغيير المؤسسات الدستورية الموروثة عن حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة والذي دفعه حراك 22 فيفري الى الاستقالة أو (الإقالة) من طرف المؤسسة العسكرية في 2  نيسان/ أبريل 2019.

كما تميزت هذه الانتخابات المحلية عن الانتخابات الرئاسية السابقة وإستفتاء الدستور والانتخابات التشريعية المبكرة، بالعلاقة المباشرة التي تربط المواطن بالبلدية ودرجة أقل بالولاية، بسبب انشغالاته وطلباته الاجتماعية وحتى الثقافية والرياضية، لذلك سوف تكون الانتخابات المحلية المبكرة بمثابة دخول مرحلة استرجاع الثقة بين المواطن والسلطة.

التغيير أفقياً وليس عمودياً
تعلن السلطة الجديدة في البلاد، أنها تريد التغيير المرحلي السلمي لانتقال السلطة إلى جيل جديد، وهذا استجابة لمطالب الحراك السلمي الشعبي لعام 2019، رغم إنتقادات المعارضة التي هي الأخرى تبقى معارضة أعمدة جرائد وليست بمعارضة فعلية، فقد لوحظ من خلال تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون أنه لا يثق بالأحزاب السياسية عموماً، حتى في المنظمات والاتحادات المهنية التقليدية، حيث عبر عن هذا في تصريحاته عن دور منظمات المجتمع المدني التي ستلعب دوراً هاماً في المستقبل القريب، والتي ستخلق ثقافة سياسية معاصرة في العمل الجماهيري والسياسي، لإبعاد المنظمات الجماهيرية التي غزت الحياة السياسية وأقصت آلاف الكفاءات والشباب المؤهلين منذ عهد الحزب الواحد في البلاد.

ترى المعارضة في مشروع الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري الذي يباشره الرئيس عبد المجيد تبون إنها قرارات عمودية شكلية، ولا يوجد تغيير فعلي في الأفق. فقد كانت الانتخابات المحلية المبكرة ثالث محطّة استحقاق، اكتملت بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية في 25  كانون الأول/ ديسمبر 2021 ، ولكن بقت الرهانات الحقيقية تتعلق بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية المعمقة، وانهيار القدرة الشرائية التي تنذر باتساع الاحتجاجات العمالية، فضلاً عن ظهور متحور جديد لجائحة كورونا Omicron، والهجرة غير الشرعية al Harga من شباب وكهول جزائريين إلى الدول الأوروبية على قوارب الموت للبحث عن حياة أفضل.

هناك مؤشرات عديدة تدل على أن الاقتصاد الجزائري يواجه تحد كبير، وبالتالي على الحكومة أن تكون لها رؤية فاعلة لإيجاد حلول لجذور الازمة المالية والاجتماعية. لكون البلدية هي الخلية الأساسية التي تربط بين السلطة والمواطن، فينبغي على التنمية المحلية أن تكون انعكاسا للتحولات السياسية التي تعرفها البلاد منذ حراك 22 فيفري 2019، ذلك الحراك الشعبي السلمي الذي خرج فيه ملايين الجزائريين يطالبون بحياة أفضل داخل وطنهم.