التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الجزائرية

إن الحراك الدبلوماسي الحالي للجزائر يعد بمثابة إستجابة حتمية فرضتها التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الجزائرية، في ظل التحديات الأمنية التي تواجه الجزائر ومحيطها الإقليمي، الأمر الذي دفع بإدراة الرئيس عبد المجيد تبون إلى تجسيد مفهوم جديد لسياسة خارجية جزائرية نشطة واستباقية، جعلتها تسترجع دورها الحيوي في المحافل الدولية وتتموقع كقوة إقليمية فاعلة، حيث نجح الرئيس عبد المجيد تبون ووزير خارجيته المخضرم السيد رمطان لعمامرة في إعادة تفعيل سمعة الدبلوماسية الجزائرية، التي ترتكز على احلال السلم والأمن الدولين، وأداء دور الوسيط الوثيق في القضايا الإقليمية والدولية، وهو الدور الذي كان معروفاً عن الجزائر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

في العادة السياسة الخارجية في الجزائر تبقى في يد صانعي القرار في مفاصل الدولة وأجهزتها، لكن بعد وصول عبد المجيد تبون إلى رئاسة الجزائر في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، من خلال انتخابات جرت في أجواء غير عادية، ميزها احتجاج الرافضين والمعرقلين لهذه الانتخابات.

عقيدة الدبلوماسية الجزائرية هي وليدة ثورة التحرير الجزائرية، وإنجازات الوفد المفاوض لجبهة التحرير الذي فاوض فريق الجنرال ديغول لانتزاع استقلال الجزائر من فرنسا. إنجازات الوفد المفاوض لجبهة التحرير في تلك الحقبة أصبحت مرجعية الدبلوماسية الجزائرية وعقيدتها النضالية.

  الجزائر دولة محورية في المنطقة
أصبح جوار الجزائر مقلقاً بسبب الأزمة الليبية، والانسداد السياسي في تونس وعدم الاستقرار السياسي والأمني في دول الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا، أضف الى التوتر الدائم مع المغرب، الذي أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في الصيف الماضي.

الرئيس عبد المجيد تبون أكد خلال ترشحه لرئاسة الجمهورية أن الجزائر قوة إقليمية معترف بها، حيث قال في حديث له "كانت منظمة حركة عدم الانحياز قد صنفت في عام 1994 الجزائر بإنها دولية محورية، ثم فقدنا الجناح القوي لنا الذي هو الجناح الإفريقي وأصبحنا نهتم بملفات اخرى… واسترجاع قوة دبلوماسية الجزائر بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعدم قبول التدخل في شؤوننا، وكنا منارة الشعوب المضطهدة، ولابد للاقتصاد أن يأخد القسط الوافر من العمل الدبلوماسي".

تعيش الجزائر متغيرات وأحداث سياسية وأمنية صعبة فرضتها عليها بيئتها الداخلية منذ أحداث أكتوبر/ تشرين الأول عام1988، وهذه المتغيرات تجسدت في شكل محددّات داخلية أساسية، طبعتها بشكل كبير، قيم المجتمع الجزائري وتماسكه في كل الظروف والتحديات التي عاشها منذ تلك الفترة.

وبالتالي كانت الجزائر دائما تسعى إلى سياسة خارجية براغماتية المصالح، أحيانا تنخرط السياسة الخارجية الجزائرية في لعبة تدوير الزوايا و سياسة المحاور، بناء على تحديد وصف مسبق ودقيق لمجموعة من الأهداف والأولويات التي تؤثر بشكل مباشر في فاعلية السياسة الخارجية وتعمل على توجيهها. الجزائر كدولة مستقلة ذات سيادة سارعت منذ استقلالها إلى تبني سياسة خارجية تتسم بالواقعية، عبر دبلوماسية تحكمها المبادئ والأهداف الواردة في مختلف المواثيق والدساتير الوطنية الجزائرية، وأهمها مبدأ "عدم التدخل في الشأن الدّاخلي للدول"، والتي تعد في مجملها امتدادًا لمبادئ  ثورة نوفمبر/ تشرين الثاني 1954.

تمكنت السياسة الخارجية الجزائرية في مراحل مختلفة أن تحقق عديداً من الإنجازات للجزائر، في شتى المجالات، السياسية منها والاقتصادية، وحتى الثقافية، بحسب الظروف والمعطيات التي كانت تفرضها في كل مرة البيئتين الداخلية والدولية، التي تكون بمثابة عوامل أو محددات في توجيه سياسة الجزائر الخارجية.

من المؤكد أن السياسة الخارجية الحالية للجزائر خلال تعبيرها عن سلوكها، تتأثر بالأوضاع التي تنتج عنها تطورات النسق الدولي المتوتر في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، وبالتالي تتفاعل فيه الدولة مع غيرها من الدول وتتحدد الصورة الاستراتجية لهذا النسق الدولي التي سوف تفرزه الحرب الروسية-الأوكرانية، تبعا للتفاعلات السائدة في إطار هذا النسق والتي تتمثل في القواعد السلوكية التي تحكم العلاقات بين أعضائه والأطراف الإقليمية الصاعدة.

التحديات الأمنية والجيو-سياسية
الجزائر ليست بمعزل عن هذه التغيرات والتقلبات التي تفرضها البيئة الإقليمية والدولية، والتي تشكل محددًا من محددات سياستها الخارجية، ضمن علاقة ثنائية ومتبادلة ترتكز على عنصري التأثير والتأثر. وبالتالي أصبحت ملتزمة على اتخاذ خطوات مناسبة للتماشي مع هذه التقلبات وفقًا لما تقتضيها مصالحها وأهدافها في هذا المجال.

مرت الجزائر بمحنة أمنية كبيرة في بداية التسعينات من القرن الماضي، مما أدى إلى غيابها عن الساحتين الإقليمية والدولية، شهدت الجزائر خلال تلك الحقبة تحولات داخلية وخارجية كثيرة، قادت في النهاية إلى تجاوز محنة الإرهاب الذي عرفته البلد طوال العشرية الحمراء. ومنذ مجيئ الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة 1999-2019، وكونه دبلوماسياً وأحد مهندسي الدبلوماسية الجزائرية بعد الإستقلال، تمكن بوتفليقة من اعطاء زخم جديد للسياسة الخارجية الجزائرية، نتيجة تجربته وخبرته وعلاقاته الشخصية مع قادة دول العالم والمؤسسات الدولية.

العامل الشخصي أدى دوراً مهما في العهدتين الأولى والثانية للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة في إدارة سياسة خارجية براغماتية، بين تغيير الثابت والمتغير، لذلك كان التركيز على شخصية الرئيس بوتفليقة في إتخاذ وصنع القرار. العامل القيادي كان له دوراً مهماً في مسار صناعة القرار الخارجي الجزائري، خاصة كون بوتفليقة كان رجل كريزماتي وذو ثقافة مزدوجة، ذلك بحكم خبرته وتجربته في الحقل الدبلوماسي من جهة، واضطلاعه بمعطيات مفاصل وأليات الحكم في الدولة الجزائرية. كان تأثير بوتفليقة قوياً في صياغة سياسة خارجية جديدة تنسجم مع طبيعة التحديات الإقليمية والدولية، كانت السياسة الخارجية الجزائرية في عهد بوتفليقة واقعية الأهداف، ما زاده في شعبيته كونه القائد الذي كان يبحث عنه الجزائريين منذ وفاة الرئيس هواري بومدين عام 1979. وكان الرئيس الراحل وزيرا للخارجية خلال فترة حكم الرئيسان أحمد بن بلا وهواري بومدين، فاحتضنه غالبية الشعب كقائداً للدولة وسياستها الخارجية والأمنية. لاسيما بعد تصاعد التحديات الأمنية الإقليمية، بعد التطورات التي عرفتها المنطقة العربية في ظل الموجة الأولى للثورات العربية، تلتها الأزمة الليبية، والأحداث في الساحل الأفريقي التي جسدتها بشكل كبير الحرب في مالي، وبالأخص بعد التدخل الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي عام 2013.

ان صياغة السياسة الخارجية تتأثر بحيثيتي الصرامة والإحتياج في آن واحد، وفق السقف التشخيصي الإقليمي واستحضار الرؤيات الأمنية-العسكرية على حد سواء، بوصفهما الأداتان الكفيلتان بتحديد معالم الخطر وكيفية مواجهته. هذا ما عرفته واقعتي اختطاف دبلوماسيين جزائريين في مالي عام 2012، والهجوم الإرهابي على محطة مصنع الغاز بعين آميناس جنوب شرق الجزائر عام 2013، انطلاق المخاطر الأمنية في صحراء الجزائر كان بمثابة إنذاراً لمصالح الأمن في البلاد.

 تمكنت الجزائر مؤخراً من السيطرة على الجبهة الداخلية بعد حراك شعبي سلمي دام تسعة أشهر، تلتها أزمة صحية عالمية (جائحة كوفيد-19) غيرت سلوك ونمط شعوب العالم، مما جعل الجزائر تحقق مكسباً كبيرا لأمنها واستقرارها الداخلي؛ الذي أسهم  في تفعيل حراك دبلوماسيتها اليوم وفق عقيدة سياسة خارجية جديدة.

 ارتفاع اسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية والتي بدأت تداعيتها تؤثر في إقتصاديات دول عديدة في العالم، مما جعل الجزائر تتبنى سياسة خارجية نشطة، تلعب دورًا كبيرًا في انتعاش حركية إقتصادية على اعتبارها دولة ريعية، تعتمد منذ استقلالها في تمويل سياساتها التنموية المختلفة على عائدات صادراتها من هذه الموارد.

إن تجسيد هذا النشاط منذ عودة السيد رمطان لعمامرة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية على رأس الخارجية الجزائرية، عرفت الدبلوماسية حراكا مكثفاً على الصعيد الإقليمي والدولي، كون لعمامرة صاحب خبرة، وعودته  للخارجية الجزائرية حقق تغيير ملحوظ في نمط السياسة الخارجية الجزائرية، في ظل التداعيات الإقليمية والدولية للأزمة الروسية-الأوكرانية، فشهدنا لقاءاته المكثفة مع نظيره الروسي، سواء على الصعيد الثنائي أو التكاملي في إطار وفد جامعة الدول العربية المكون من وزراء خارجية كل من الجزائر ومصر والأردن والعراق والسودان، الذين شاركوا أحمد أبوالغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية في زيارتهم لموسكو وكييف، لمناقشة الأزمة الأوكرانية وتداعيات هذه الأزمة على إقتصاديات الدول العربية.

الجزائر تربطها علاقات تاريخية وثيقة مع موسكو لازالت تعزز التعاون الإستراتيجي ذو البعد العسكري والطاقوي بين البلدين، كون روسيا تسمح للجزائر بتبني سياسة مستقلة، تجعلها تخرج من معادلة الأمر الواقع المفروض عليها من قبل الدول الأوروبية، وتحقيق سياسة التوازنات مع الغرب المنقسم، حيث لجأت الكثير من الدول الأوروبية للجزائر كبديل للغاز الروسي وبالتالي أصبحت دبلوماسية الغاز أحد محددات لسياستها الخارجية.

إن التحرك المكثف لوزير الخارجية لعمامرة على الصعيدين المغاربي والعربي لم يتوقف نشاطه سواء مع الملف التونسي منذ انقلاب الرئيس قيس سعيد على الدستور في 25 يوليو/ تموز2021،  أو مع الأزمة الليبية، ومحاولات التخفيف من شدة التصعيد مع المغرب. كذلك الجزائر تسعى إلى استضافة القمة العربية في الخريف القادم لترتيب البيت العربي المأزوم. أما على الصعيد الأفريقي، الجزائر تنظر لأمنها القومي من عمق دول الساحل الأفريقي واستقرارها، حيث ثمة لقاءات متواصلة مع السلطة العسكرية الجديدة بباماكو ولعبها دوراً حيوياً أيضا داخل الاتحاد الأفريقي؛ في الشتاء الماضي تمكنت الجزائر من طرد إسرائيل من اجتماعات الاتحاد الإفريقي وسحب صفة العضو المراقب منه، بتأييد من جنوب إفريقيا وبعض الدول الأعضاء الأخرى.

هذه المقالة سبق وأن نشرت تحت عنوان " العقيدة الجزائرية الجديدة.. هل ينجح تبون في إعادة تشكيل السياسة الخارجية لبلاده؟" في موقع "عربي بوست  " بتاريخ 17 يونيو/ حزيران 2022، على الرابط: