حراك الجزائر والإنتقال السلمي المفروض

 

      عرفت الجزائر منذ بداية سنة 2019 غلياناً شعبياً لم تشهده مند عقود، ويرجع سبب هذا الغليان بالدرجة الأولى إلى تمسك الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بالترشح لعهدة رئاسية خامسة وسط جدل كبير حول وضعه الصحي. وبقدر ما أثار ذلك الترشح من تساؤلات حول قدرة بوتفليقة الذي غاب خلال كل عهدتة الرابعة، وكان أخيه المستشار الشخصي للرئيس في القصر الرئاسي في "زرالدة" بمثابة الرئيس الفعلي للجزائر؛ كما أثار ذلك الترشح تساؤلات حول سلطة سياسية فاسدة عزلت نفسها عن الناخب بسبب فشلها الذريع في إدارة البلاد، وبسبب الخيارات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومات المتتالية، ولا سيما منذ بداية الأزمة المالية الناجمة عن انهيار أسعار النفط عام 2014

    ظلت التظاهرات في الجزائر سلمية رغم غياب تأطير هيكلي لها، فمنذ بداية الحراك تكرر شعار "سلمية، سلمية" كمبدأ أساسي، ليتحول بعد ذلك إلى نهج عملياتي يتجلى عبر النداءات المتكررة بعدم الاستجابة للاستفزازات وعدم الدخول في مواجهات مع أجهزة الأمن. وبالفعل توالت المظاهرات الأسبوعية بدون تسجيل مناوشات خطيرة تذكر، بالمقابل نلاحظ تمسك أعضاء أجهزة الأمن باحترافية وهدوء كبيرين، لا سيما دور الجيش في تسيير الأزمة

 

في ظل اتساع رقعة ذلك الحراك وارتفاع سقف المطالب من رفض للعهدة الخامسة إلى التغيير الجذري للنظام، ماذا كان رد النظام؟

     يمكن القول بأننا أمام مقاربة من نوع الانتقال السلمي "المفروض"، وهو ما رفضه الجناح المتشدد داخل الحراك الذي لازال يطالب بمرحلة انتقالية تفضي في آخر المطاف إلى تغيير النظام جذرياً، سلمياً وتوافقياً. لكن ما هو النموذج الأنسب لتحقيق هذه التطلعات؟ إن إشكالية الانتقال الديمقراطي، هي عدم وجود نموذج معياري شامل يمكن تطبيقه على جميع الحالات، فالدول التي سارت على هذا النهج، بدءا من البرتغال وإسبانيا مروراً بدول أمريكا اللاتينية في التشيلي والأرجنتين وأوروبا الشرقية، وصولاً إلى تركيا وتونس، كيّفت هذه المقاربة وفق الخصوصيات الذاتية والموضوعية لكل بلد

     ذلك لأن الانتقال الديمقراطي، الذي يفهم على أنه مرحلة زمنية بين نظامين، ما هو إلا هندسة تتضمن مجموعة من الآليات وتفرض إيقاعاً معيناً يجب احترامه للوصول إلى الهدف المنشود. فالتجارب الناجحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونخص بالذكر تركيا، وتونس إلى حد قريب، تعلمنا بأن نجاح الانتقال التعاقدي يستند إلى المرتكزات التالية: التفاوض، والتوافق، والتدرج في التغيير، والسلمية، لكنه يستلزم توفير مجموعة من الشروطوجود معارضة قوية وذات تمثيل قوي في إطار أحزاب، أو تنظيمات نقابية وجمعيات متجانسة، ما يمكن ملاحظته في الجزائر هو أن هذه المؤسسات السياسية والاجتماعية، تجد نفسها في حالة ضعف كبير عن مواجهة السلطة بسبب افتقارها لزعيم حزبي ذو وزن سياسي وحنكة في التفاوض والحوار

     عكس ما كانت عليه الجزائر خلال العصر الذهبي للإنتقال الديموقراطي السلمي الذي (ولد ميتا) في ظل مبادئ دستور الجمهورية الثانية في الفترة ما بين 1989-1992 بوجود وجوه سياسية بارزة في كل الأحزاب بإختلاف معتقداتهم الإيديولوجية مثلاً: الدكتور عبدالحميد مهري في التيار الوطني المحافظ، والدكتور عباسي مدني وغريمه من جناح الإخوان الشيخ محفوظ نحناح في التيار الإسلامي، والمجاهد آيت أحمد في التيار العلماني، و الأستاذ عميرات في التيار اليساري، و الرئيس أحمد بن بلة في التيار الوطني القومي

      كما يعود هذا الضعف لأسباب موضوعية يرتبط جزء منها بسياسة الاحتواء وشراء الذمم التي فرضها الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، في العهدات الثلاث من حقبة حكمه  1999-2013 قبل تعرضه لجلطة دماغية ألزمته الصّمت وعدم التّحرك. وبالتالي أصبحت هذه الأحزاب بين سندان الموالاة ومطرقة الإستقطاب، فتحولت إلى تكتلات وطموحات فردية، كل واحد منهم يريد التقرب إلى السلطة وأجهزاتها الإستخباراتية، مما أدى إلى اختزال هذه الأحزاب في تكتلات فاقدة للمصداقية وبالتالي يصعب عليه أن يكون في موقع تفاوضي مع السلطة

ماهي تطلعات الشّعب الجزائري وما هي ردود السّلطة على مطالبه؟

     جاءت الإدارة الجديدة للرئيس عبد المجيد تبون، الذي تم انتخابه في شهر تشرين الأول/ ديسمبر 2019 في ظل تواصل الحراك الشعبي والذي دام عشرة أشهر كاملة من المسيرات الشعبية السلمية وفي جو انتخابي ساده الإحتقان الإيدولوجي، بعد تمسك الجناح المتشدد في الحراك بطلبه: اسقاط النظام كله واحلال مرحلة انتقالية. خرجت الأسبوع الماضي رئاسة الجمهورية الجزائرية بتقديم مسودة التعديل الدستوري، الذي كان قد وعد به الرئيس عبدالمجيد تبون في حملته الإنتخابية، ومن أهم ما ورد في المسودة من تعديلات: اقتراح استحداث منصب نائب للرئيس، وتوسيع صلاحيات رئيس الحكومة والبرلمان، والسماح بمشاركة الجيش في عمليات خارج الحدود، وتعويض المجلس الدستوري الذي يفصل في نتائج الانتخابات بمحكمة دستورية إضافة إلى احترام الحقوق الفردية والمدنية وحرية المعتقد والرأي كما كانت ردود الفعل على مسودة الدستورالجديد من قبل القوى الفاعلة في الساحة من سياسيين وصحفيين وأكاديميين على مواقع التواصل الإجتماعي متباينة وبعضها رافضة. حيث خرج حزب حركة مجتمع السلم ذو الإتجاه الإسلامي، مصرحاً في بيان له: "إن مسودة التعديل الدستوري التي طرحتها رئاسة الجمهورية للنقاش لم تفصل كما كان منتظراً في طبيعة النظام السياسي للبلاد وأبقته هجيناً، لا يمثل أي شكل من أشكال الأنظمة المعروفة في العالم -الرئاسية أو البرلمانية أو شبه رئاسية-"

       كما صرّح الدكتور جيلالي سفيان رئيس حزب جيل جديد على الصفحة الرسمية للحزب على Facebook أن الدستور هو النص الأساسي للقانون الذي من شأنه تكريس مبدأ الفصل بين السلطات وعدم احتكار السلطة من طرف شخص واحد والحرص على مبادئ الديموقراطية في البلاد

     ورد في مسودة الدستور بأن من صلاحيات رئيس الجمهورية أن يعين نائبا له. فيما اقترحت تحديد عدد العهدات الرئاسية بعهدتين متتاليتين أو منفصلتين (على نمط النظام الرئاسي الأمريكي)، نفس الأمر أيضاً بالنّسبة لنوّاب البرلمان إذ تم تحديد عدد العهدات بعهدتين. كما رفض حزب جيل جديد استحداث منصب نائب الرئيس في مقترح مسودة الدستور لتخوفه من ان يحكم الشعب الجزائري من طرف رئيس غير منتخب

     كما نصت مسودة الدستور على تعزيز منصب رئيس الحكومة ليكون المسؤول الأول أمام النّواب بشأن برنامجه الحكومي، وعدم الزام اختياره من الأغلبية البرلمانية، مما يطرح الكثير من الأسئلة منها: عدم الزامه برغبة الأغلبية المنبثقة من صندوق الإقتراع وفقاً للبرنامج الإنتخابي الذي طرحته في الحملة الإنتخابية، وهو ما طرح اشكالية تكييف طبيعة النظام الدستوري الجديد

     ورد أيضاً في هذه المسودة تغيير اسم المجلس الدستوري إلى "المحكمة الدستورية" مع تغيير طريقة تعيين أعضائها وتوسيع دورها الرقابي. ومن بين المقترحات البارزة التي ألفتت انتباه المحللين تلك التي تسمح للقوات العسكرية الجزائرية بالمشاركة في عمليات حفظ السلام في الخارج تحت راية الأمم المتحدة بموافقة البرلمان

     وفي حال إذا تمت المصادقة على هذه المادة، فسيشكل سابقة في عقيدة الجيش الجزائري كون الدساتير السابقة كانت تمنع ارسال القوات الجزائرية خارج حدودها باعتبارها تختلف مع عقيدتها العسكرية إلا في ظروف إستثنائية مثل الحروب العربية- الإسرائيلية 1967 و1973

إن ادراج هذا التغيير الجذري في السياسة الدفاعية للجيش الجزائري تبقى ضمن استراتجية الأمن القومي وعقيدة الجيش وترك السلطة التقديرية للمجلس الأعلى للأمن وفقاً لمقتضيات المصلحة الوطنية؛ إلا أن أهم أسباب تغيير السياسة الدفاعية للجزائر، هو أن الجزائر أصبحت تواجه تحديات أمنية تهدد أمنها القومي في ظل التطورات الأمنية وعدم الإستقرار السائدة في كل من ليبيا ودول الساحل

      كما أخذت مادة "دسترة اللغة الأمازيغية" أيضاً قسطاً واسعاً من النقاش والتراشق اللفظي والتشكيك في"الولاء" على منابر التواصل الإجتماعي. لذلك ينبغي القيام بدراسة كيفية الجمع بين مختلف اللهجات السائدة في مختلف مناطق البلاد تضمن التمثيل والإنتشار الوطني دون اقصاء، وذلك يضمن الحفاظ على تنوع وثراء الموروث الثقافي الذي تضمنه تعديل دستور 2002 فضلاً عن ادراج اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في دستور 2016

     يبقى بعض المراقبين في انتظار موقف التيار المتشدد في الحراك الشعبي الذي توقف في فبراير/شباط الماضي بسبب وباء فيروس كورونا، كما صدرت بعض ردود فعل على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه المقترحات الدستورية الجديدة، تدعو بالرفض القاطع وعدم المشاركة في مسار النقاش التي داعت إليه رئاسة الجمهورية

    إلى ذلك الحين، وعد الرئيس الجزائري بالمصادقة على الدستور الجديد قبل نهاية العام الجاري. فبعد انتهاء مرحلة النقاش، والتي سيتم بموجبها إثراء المشروع أو حذف بعض المواد، سيتم إحالته إلى البرلمان الجزائري بغرفتيه من أجل المصادقة عليه قبل أن يطرح للاستفتاء من قبل الشعب

     ختاما يمكن القول أن انتخاب الرئيس تبون في كانون الأول/ ديسمبر 2019 لخمس سنوات، رغم اصرار الجناح المتشدد في الحراك بمواصلة المسيرات والمطالبة برحيل كل أركان النظام السابق والتغيير الجذري للنظام عبر منابر التواصل الإجتماعي، والطعن في شرعية الرئيس المنتخب، لكن جائحة كوفيد-19 قلبت معادلة الصراع الدائر بين الجناح المتشدد في الحراك والسلطة؛ غير أن التحدي حالياً هو كيفية تحويل هذا الرفض إلى مشروع سياسي يحمله فاعلون قادرون على تشكيل كتلة تتفاوض مع السلطة السياسية من موقع قوة، وتجنيب الجزائر الانتقال المفروض في ظل نقاش وإثراء مسودة الدستور الجديد التي ادرجت في ديباجته الحراك السلمي، والذي في نهاية المطاف ستبقى هذه الوثيقة هي المرجع الأساس لعقد إجتماعي جديد وميلاد الجمهورية الثالثة