السياسة الخارجية البراغماتية للجزائر: بين الثابت والمتغير

من المعروف في جميع الإنتخابات الرئاسية السابقة بالجزائر، ان المرشحين أو "المرشح الوحيد"، لا يبدون اهتماماً بالسياسة الخارجية، كونها ليست من أولوياتهم  وتبقى شؤون السياسة الخارجية في يد صانعي القرار في مفاصل الدولة وأجهزتها في الجزائر. غير أن أن المرشحين في الإنتخابات الرئاسية 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019 صنعوا الاستثناء حيث، أكدوا جميعهم على أن السياسة الخارجية ستكون محوراً أساسياً في برامجهم، وأعلنوا تمسكهم باسترجاع الأموال المنهوبة من رموز الفساد السابقين، الذين أصبح يطلق عليهم مصطلح "العصابة" في القاموس السياسي الجديد الذي افرزه حراك 22 شباط/ فبراير 2019. يقيناً ان الإنتخابات الرئاسية 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019 جرت في ظروف وأجواء إستثنائية، تميزت بإحتجاج الرافضين والمعرقلين لهذه الانتخابات، كما شهدت استقطاباً للناخبين المساندين للمرشحين، إلا أن المنافسة اشتدت حدتها خلال الدور الأول بفعل المواجهة التلفزيونية المباشرة الأولى في الجزائر بين المرشحين

     وبالرجوع إلى خرجات المرشحين الخمسة وخطاباتهم نجد أن مرشح حزب "طلائع الحريات" علي بن فليس، ذكر أن الدبلوماسية التي انتجتها هذه الثورة، ترتكز على مبدأ "لا تدّخل في شؤون الغير، ورفض التدخل في شؤوننا"؛ والجزائر عاشت في السنوات السابقة حالة من "شخصنة" الدبلوماسية، وربطت بعلاقات شخص (يقصد الرئيس المستقيل)، "نحترم كل الدول، ولا بد أن تحترمنا تلك الدول، نريد سياسة دولة الند بالند، وأعرف "كقاض سابق" أن استرجاع الأموال صعب، لذلك يجب أن نفعل الاتفاقيات مع الدول الأخرى لاسترجاع ما يمكن استرجاعها"

     أما مرشح حزب التجمع الوطني الديمقراطي عزالدين ميهوبي، فقد ذكر "أن عقيدة الجزائر في السياسة الخارجية لا يختلف فيها اثنان، علاقاتنا مع الدول على أساس الاحترام المتبادل، بدون تدخل، علاقاتنا الدولية مبنية على الندية، وهذا خط احمر في السياسة الخارجية، كذلك سياسة الدفاع الوطني لا نريد فيها تدخلا، يجب ان يحوز هدف تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية على 70 بالمائة من عمل السفراء الجزائريين، للبحث عن التسويق للمنتجات والاستثمارات، أما قضية استرجاع الأموال فهي معقدة، ولن تأتي بالكثير، لابد من موقف طوعي ممن نهبوها ليقول لنا أين هي"

     ومن جهته أكد عبد القادر بن قرينة مرشح حزب البناء "أنه لابد من علاقات متوازنة وليست بديلة، وسأصنع من الجزائر دولة محورية في المنطقة، فجوارنا متصدع، أما في موضوع استرجاع الأموال فسأستفتي الشعب، لأن الأموال كلها في الخارج بعشرات المليارات"

     أما عبد العزيز بلعيد مرشح حزب حركة المستقبل فقد شدد على "أن العمل سيكون بالتعامل بالمثل وعدم التدخل، والعمل على المصلحة المشتركة، لابد أن ندفع بالمجتمع المدني لفتح علاقات مع المنظمات غير الحكومية (NGOs) في الخارج، ودبلوماسيتنا لابد أن تعمل دوراً في الاقتصاد، ولابد من دور في المغرب العربي، والتوجه نحو إفريقيا، لأن السوق مفتوح وممكن بخبرتنا أن نقتحمها، تقاليدنا ندافع عن الشعوب المستعمرة ونرافقها

     أما المرشح الحر، الرئيس الجديد عبد المجيد تبون فقد أكد على أن الرجوع إلى الأصل فضيلة، الجزائر قوة إقليمية معترف بها، "كنا الدولة المؤثرة في حركة عدم الانحياز، صنفت الجزائر في عام 1994 دولة محورية، وفقدنا الجناح القوي لنا، وهو الجناح الإفريقي، وأصبحنا نهتم بملفات أخرى، يجب استرجاع قوة دبلوماسية الجزائر بعدم التدخل في شؤون الغير، وعدم قبول التدخل في شؤوننا، كنا منارة الشعوب المضطهدة، لابد للاقتصاد أن يأخذ القسط الوافر من عمل الدبلوماسية، والأموال المنهوبة إن شاء الله تسترجع"

     تعيش الجزائر حالياً متغيرات وأحداث سياسية وأمنية قاسية، فرضتها عليها بيئتها الداخلية، منذ أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1988، وهذه المتغيرات تجسدت في شكل محددات ، داخلية أساسية، طبعتها بشكل كبير قيم المجتمع الجزائري وتماسكه، في كل الظروف والتحديات التي عاشها منذ تلك الفترة، مترجمة سلوكها ودورها الخارجي؛ كأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 على الصعيد الأمني. وبروز ظاهرة الإرهاب العابر للحدود كعامل خطير بات يهدد أمن واستقرار الدول، بوصفه حاملاً لإيديولوجية تقوم على ضرب مؤسسات الدولة وهياكلها، شكل تحدياً يفرض على معظم الدول إعادة النظر في سياستها الخارجية والأمنية، ومنها الجزائر، ان إعادة تقييم وتقويم السياسة الخارجية أصبح أمراً ضرورياً، يتوافق مع التهديد القائم لهذه الجماعات المتطرفة، حيث كانت محاولات إعادة النظر في السياسة الخارجية تسعى للوصول إلى أجواء إقليمية وعالمية تسمح بمواجهة هذا الكيان التهديدي الفعلي بطريقة أكثر نجاعة وفعالية. وبالتالي كانت الجزائر دائما تسعى إلى سياسة خارجية براغماتية المصالح (أحياناً في ظل لعبة تدوير الزوايا وسياسة المحاور) بناء على تحديد وصف مسبق ودقيق لمجموعة من الأهداف والأولويات، التي تؤثر بشكل مباشر وفعال على السياسة الخارجية وتعمل على توجيهها

     الجزائر كدولة مستقلة ذات سيادة سارعت منذ استقلالها إلى تبني سياسة خارجية تتسم بالواقعية، عبر دبلوماسية تحكمها المبادئ  والأهداف الواردة في مختلف المواثيق والدساتير الوطنية الجزائرية (عدم التدخل في الشأن الدّاخلي للدول، و حل النزاعات بين الدول المجاورة بالطرق السلمية و عدم اللجوء الى القوة ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها و احترام الحدود المورثة عن الاستعمار والتي تعد في مجملها امتداداً لمبادئ  ثورة تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، تمكنت من خلالها الجزائر أن تحقق عديدا من الإنجازات، في شتى المجالات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، بحسب الظروف والمعطيات التي كانت تفرضها في كل مرة البيئتين الداخلية والدولية عليها، وتكون بذلك بمثابة عوامل أو محددات في توجيه سياستها الخارجية. لقد كانت تعد الجزائر قبلة الأحرار والحركات التحررية والمناضلين والمثقفين في الدول العربية والأفريقية وحتى في أمريكا اللاتينية

      مما لا شك فيه أن السياسة الخارجية للدولة الجزائرية من خلال تعبيرها عن سلوكها الخارجي، تتأثر بالحالة أو الوضعية التي تفرزها عليها تطورات النسق الدولي، الذي تتفاعل فيه الدولة مع غيرها، وتتحدد الصورة التاريخية لهذا النسق الدولي تبعاً للتفاعلات السائدة في إطار هذا النسق، والتي تتمثل في القواعد السلوكية التي تحكم العلاقات بين أعضائه. والجزائر دولة ليست بمعزل عن المتطلبات التي تفرضها عليها هذه البيئة، والتي تشكل محدداً من محددات سياستها الخارجية ضمن علاقة ثنائية ومتبادلة التفاعل ترتكز على عنصري التأثير والتأثر. وبالتالي كانت ملتزمة على إرساء محاولات مناسبة للتماشي مع هذه المتطلبات، وفقًا لما تقتضيها مصالحها وأهدافها في هذا المجال

     مرت الجزائر بمحنة أمنية كبيرة في بداية التسعينات من القرن الماضي، مما أدى إلى غيابها عن الساحتين الدولية والإقليمية، حيث كانت هنالك متغيرات داخلية وخارجية كثيرة ساهمت في تجاوزها بشكل مستمر لمحنة الإرهاب الذي عرفته طوال (العشرية الحمراء). ومنذ مجيئ الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وكونه دبلوماسياً وأحد مهندسي الدبلوماسية الجزائرية بعد الإستقلال، غيّر بوتفليقة ودفع بالسياسة الخارجية الجزائرية، نتيجة تجربته في السلك الدبلوماسي وعلاقاته الشخصية مع قادة دول العالم بل حتى مع المؤسسات الدولية

     لعب المحدد الشخصي دوراً مهماً في العهدتين الأولى والثانية للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، في إدارة سياسة خارجية براغماتية بين تثبيت الثابت وتغيير المتغير، لذلك كان التركيز على شخصية الرئيس السابق في صنع وإتخاذ القرار، علما أنّ العامل القيادي يلعب دورا في مسار صناعة القرار الخارجي، خاصة كونه رجل كريزماتي ومثقف مزدوج، ذلك بحكم خبرته في الحقل الدبلوماسي ومعطيات مفاصل وأليات الحكم في الدولة الجزائرية؛ حيث أنه يمثل العامل الحاسم في عملية صناعة القرار (رغم أن الجزائر آنذاك كان الحكم فيها لايزال في قبضة الجنرالات). كان تأثير الرئيس السابق بوتفليقة قوياً في صياغة سياسة خارجية جديدة، تتوقف على طبيعة نمط التقلبات الإقليمية والدولية، كانت سياسة خارجية واقعية الأهداف.

     تجسدت في شخص الرئيس السابق، هذا ما زاده شعبية كونه القائد الذي كان يبحث عنه الجزائريين منذ وفاة الرئيس هواري بومدين عام 1978.كان الرئيس السابق وزيراً للخارجية خلال فترة حكم الرئيس هواري بومدين 1965-1978، فاحتضنه غالبية الشعب كقائد للدولة متباهياً بسياستها الخارجية والأمنية داخلياً وإقليمياً. لاسيما ما تعلق منها بالجانب الأمني، بعد التطورات التي عرفتها المنطقة العربية، في ظل الثورات العربية التي شهدتها منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط (MENA) ثم تلتها الأزمة الليبية والصراع في مالي في الساحل الأفريقي، والتي جسدتها بشكل كبير بعد توغل الوجود الفرنسي في المنطقة

      من حيث الأهداف، تمكنت الجزائر طيلة هذه الفترة من استعادة كلية لأمنها واستقرارها الداخلي، مما أسهم في تفعيل حراكها الخارجي. بحيث حققت سياستها الخارجية عبر دبلوماسيتها الناشطة تحت قيادة الوزير السابق رمطان لعمامرة، مجموعة من الإنجازات الهامة التي تضاف إلى سجل إنجازات الدبلوماسية الجزائرية التاريخية السابقة، لاسيما على المستوى القاري: توقيع اتفاق الجزائر في عام 2000 بين أثيوبيا وأريتريا، لوقف الأعمال العدائية وإحالة النزاع إلى التحكيم الدولي، وبحكم أنها دولة محورية تمتلك إمكانات ومقدرات كبيرة، وبالأخص الطبيعية منها كموارد الطاقة والنفط تحديداً، وبحكم أن هذه الموارد تشكل عاملًا داخلياً أساسياً في التأثير في السياسات الخارجية للدول

     لقد كان لارتفاع اسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية خلال فترة العهدة الأولى والثانية للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة دوراً كبيراً في انتعاش حركية الجزائر الداخلية وحتى الخارجية، على اعتبارها دولة ريعية؛ تعتمد منذ الإستقلال في تمويل سياساتها التنموية المختلفة على عائدات صادراتها من هذه الموارد. وهذا في ظل استمرار بعض المعوقات الداخلية وحتى الخارجية، التي شكلت تحديا كبيرا على توجيه السياسة الخارجية الجزائرية وفرضت ضماناً لمواجهتها بما يتلاءم وطبيعتها، وكذلك درجة تأثيرها في الأداء السياسي الخارجي للجزائر بشكل خاص

      ومن هنا يجب تمرير السياسة الخارجية تحت حيثيتي الصرامة والإحتياج في آن واحد، وفق السقف التشخيصي الإقليمي، بتوظيف الرؤى الأمنية القومية والعسكرية على حد سواء، بوصفهما الأداتان الكفيلتان بتحديد معالم الخطر وكيفية مواجهته، هذا ما عكسته حادثتي اختطاف دبلوماسيين جزائريين في مالي عام 2012 والهجوم الإرهابي على محطة مصنع الغاز بولاية "عين آميناس" جنوب شرق الجزائر عام 2013، مما أدى بالسلطات إلى فتح ملف الأمن في صحراء الجزائر، والذي كان بمثابة إنذارا لمصالح الأمن في البلاد

     وفي ظل الأوضاع الأمنية الراهنة في منطقة الساحل والحرب الأهلية في ليبيا، الجزائر اليوم الغائب الأكبر في هذا الصراع رغم دورها في مساندتها للحوار والمصالحة والتعايش السلمي ومساعي المبعوث الأممي الدكتور غسان سلامة، لأن الجزائر لا تريد أن تتحول ليبيا دولة فاشلة أو دولة مليشيات، وغيابها عن قمة برلين الشهر القادم يرجع تبريره إلى انشغالها بالمسار الإنتخابي وإدارة أزمة الحراك الشعبي

     على الرئيس الجزائري الجديد أن يؤسس قواعد سياسة خارجية براغمتية المصالح، ليست فقط قائمة على قاعدة تدوير الزوايا وسياسات المحاور، فعليه بالبحث عن أدوات ووسائل جديدة لإرسال رسائل مباشرة لدعم الإنتشار الناعم للجزائر، إقليمياً ودولياً، كما يجب إدراك هذا الجانب المهم لسياسة خارجية حديثة مبتكرة، تضع السياسة الخارجية الجزائرية في مكانة تنسجم مع موقع ونموذج القوة الناعمة وهذا ما أراده المرشح عزالدين ميهوبي، بعزمه على الدفع بدبلوماسية إقتصادية تحركها البعثات الدبلوماسية في الخارج. والذي أكده أيضا الرئيس الجديد خلال المواجهة التلفزيونية: "لابد للاقتصاد أن يأخذ القسط الوافر من عمل الدبلوماسية." - السلوك الذي ستؤكده نية وسياسات القيادة الجزائرية الجديدة والرئيس الجديد عبد المجيد تبون من خلال التوجه والعمل والمرافقة بشكل عام