تاريخ التعليم باللغة التركية في العراق وابعاده القانونية

 

 

كان التعليم في العهد العثماني يجري باللغة التركية في عموم العراق ولا سيما في المناطق التركمانية منه. وكان التعليم يتم في تلك الفترة بصورة عامة في المساجد والتكايا على شكل كتاتيب. وقد استمر هذا الامر بعد الاحتلال البريطاني للعراق (8191) وتأسيس دولة العراق في عام 1921. وكان التدريس يتم في المدارس الابتدائية التي أسست في تلك الفترة في كركوك وفي سائر المناطق التركمانية، يجري باللغة التركية وبالاحرف العربية، مع اضافة درس واحد لتعليم اللغة العربية للطلاب. وفي عام 1927 تحوّل التعليم في الصفوف الخامسة والسادسة من تلك المدارس الى اللغة العربية، اما الصفوق الاربعة الاولى من تلكم المدارس الابتدائية، فقد استمر التعليم فيها باللغة التركية، كما تحول التعليم في المدارس المتوسطة والثانوية الى اللغة العربية ايضا.

لم يتورع الانكليز الذين احتلوا العراق في اواخر الحرب العالمية الاولى، والذين فرضوا عليه نظام الانتداب فيما بعد، لم يتورعوا ما وسعهم الجهد عن اتخاذ اي اجراء يعمل على امحاء الوجود التركماني والتاريخ والثقافة التركمانية في العراق، ونفذوا سياسة في العراق ترمي الى الغاء التعليم باللغة التركية حتى في المناطق التركمانية من البلاد.

على ان الملفت للنظر هو صدور تشريعين خلال فترة الانتداب البريطاني (1921 – 1932) يتضمنان امكان التعليم باللغة التركية ولو في نطاق ضيق، كان اولهما "قانون اللغات المحلية" الذي صدر في عام 1931، اما الثاني، فكان البيان او التعهد الذي اصدرته الحكومة العراقية في عام 1932.

نصت المادة السادسة من قانون اللغات الرسمية رقم 74 الذي صدر في عام 1931 على ان تكون لغة التعليم في جميع المدارس الاولية والابتدائية في الاقضية المبينة في هذا القانون ( قضائي كركوك وكفري من محافظة كركوك واقضية الموصل واربيل) هي اللغة البيتية لأكثرية طلاب تلك المدارس سواء كانت عربية او تركية او كردية.

اما "بيان الحكومة العراقية" الصادر في عام 1932، الذي صدر بتوقيع رئيس الوزراء نوري السعيد، فانه كان تعهدا موجها الى "عصبة الأمم" بهدف الغاء نظام الانتداب وقبول العراق عضوا في تللك المنظمة كدولة مستقلة. فقد نصت المادة الخامسة من هذا البيان على انه " تكون الشعوب العراقية المنتسبة الى اقليات عرقية او دينية او لغوية في نفس المستوى ويتم التعامل معها على قدم المساواة مع سائر الشعوب العراقية ... كما يكون لهم الحق في تأسيس معاهد خيرية ودينية واجتماعية وفتح المدارس او سائر المؤسسات التعليمية وذلك بهدف استعمال لغتهم الخاصة". اما المادة الثامنة من البيان، فانها نصت على انه " تؤمّن حكومة العراق لأطفال جماعات المواطنين العراقيين الذين لغتهم الأم هي غير اللغة العربية، ممن يشكلون نسبة معينة في المدن او الاقضية، الفرصة والحق للتعلم في المدارس الابتدائية بلغتهم الخاصة...". ونص البيان على ان التعهدات المعترف بها للمجاميع القومية والدينية في العراق هي التزامات دولية ستكون تحت ضمانة عصبة الأمم.

والواقع ان قانون اللغات المحلية وتعهد الحكومة العراقية لعصبة الامم المشار اليهما لم يتم اصدارهما بدافع حقيقي يقصد به فسح المجال للمجاميع القومية في العراق لتدريس ابنائها بلغة الأم، بل انهما صدرا بدوافع سياسية بحتة وموقتة. ذلك ان عصبة الامم كانت قد اشترطت لإمكان حصول العراق على الاستقلال التام ودخوله عضوا في عصبة الأمم، ان يتعهد هذا البلد بالاعتراف بالحقوق الواردة في البيان لمواطنيه. وكان ذلك هو السبب الحقيقي للإعتراف للمكون التركماني ولسائر القوميات والطوائف الدينية بتلك الحقوق. فلم تمض الا فترة قليلة على ضمان دراسة ابناء التركمان بلغتهم الاّم ، قبل ان تسلب هذا الحق منهم تدريجيا. ففي الاعوام 1935 - 1936 تم الغاء الدراسة باللغة التركية في جميع المناطق التركمانية ما عدا محافظة كركوك، واقتصر الأمر في كركوك على حصة واحدة يتم فيها تعليم اللغة التركية للطلاب، وتم الغاء هذا الحق ايضا وبوشر بالتعليم باللغة العربية بصورة تامة.

استمر هذا الوضع طوال فترة العهد الملكي (1921 – 1958). وبعد فترة قليلة من انهيار النظام الملكي واعلان النظام الجمهوري في العراق، صدر دستور العراق الموقت الذي نص في مادته الثالثة على ان العرب والاكراد شركاء في هذا الوطن وان الدستور يضمن حقوقهم القومية، في تجاهل تام لحقيقة وجود الكيان التركماني في العراق. واستتبع ذلك بالطبع عدم الاعتراف للتركمان بحقهم في التعليم بلغتهم القومية.

واتّبع الدستور الموقت الصادر في عام 1968 إثر استيلاء حزب البعث على مقاليد الامور في العراق، نفس النسق السابق في ضمان حقوق العرب والاكراد دستوريا وتجاهل وجود وكيان وحقوق المكون التركماني. وكنتيجة سياسية لهذا النهج، اتّبع هذا النظام سياسة تغيير ديموغرافي في المناطق التركمانية استهدفت اسكان العرب الوافدين

فيها وتهجير التركمان منها ومحاولة تعريبهم بصورة منظمة وممنهجة.

غير انه وبعد حوالي عامين من تسلط النظام البعثي على العراق، وتحديدا في 24 كانون الثاني/ يناير من عام 1970، اصدر "مجلس قيادة الثورة" الذي كان يتحكّم بأمور العراق انذاك، قرارا بشكل مفاجئ بإسم "قرار منح الحقوق الثقافية للتركمان". ووفقا لهذا القرار الصادر برقم 89 ، تم السماح بتدريس اللغة التركمانية (التركية) في المدارس الابتدائية بالمناطق التركمانية، وبأن يكون جميع وسائل الايضاح في تلك المدارس باللغة "التركمانية" ، الى جانب حقوق اخرى اقر بها النظام للتركمان مثل استحداث مديرية للدراسة التركمانية بوزارة التربية والتعليم، واستحداث مديرية للثقافة التركمانية بوزارة الثقافة والاعلام، وتأسيس اتحاد الأدباء التركمان، واصدار صحيفة اسبوعية ومجلة شهرية باللغة "التركمانية"، وزيادة البرامج التركمانية في تلفزيون كركوك.

وبعد صدور هذا القرار تمت المباشرة بالتدريس باللغة "التركمانية" بدلا عن اللغة العربية في جميع المدارس الابتدائية في المناطق التركمانية. وفي مدينة كركوك وحدها التي هي مركز المكون التركماني في العراق، بدأ نحو من 120 مدرسة ابتدائية بتدريس الطلبة باللغة التركية، وقوبل هذا الأمر بامتنان كبير من لدن الشعب التركماني في العراق. وتمت المباشرة بترجمة مفردات الكتب الدراسية من اللغة العربية الى اللغة التركية (بالاحرف العربية)، وبطبع هذه الكتب الدراسية، وافتتاح دورات دراسية لتأمين انسجام المدرسين مع هذا الوضع الجديد. كما تم تغيير اسماء المدارس التي بدأت بتوفير التعليم باللغة التركية الى اسماء تركية (مثل: يلدزلار، يدي قزلار، فضولي، قره التون، دوغرولوق). وبجانب ذلك، فقد تم تحويل العديد من المدارس الابتدائية في مدن اربيل وطوزخورماتو وتلعفر والتون كوبري وغيرها من المناطق التركمانية الى الدراسة باللغة التركمانية (التركية).

ومما يؤسف له ان هذا الحق الذي اعترف به للشعب التركماني، قد استرجعه نظام البعث بعد مدة قصيرة لا تتجاوز العامين، وتم اعادة جميع المدارس المذكورة الى نظام التعليم باللغة العربية. ولم يقف الشعب التركماني ساكتا ازاء هذا الاجراء المتعسف والغريب، بل بدأت الاحتجاجات تتوالى في جميع انحاء المناطق التركمانية، واعلنت المدارس، بما فيها المدارس الثانوية الاضراب، واغلقت ابواب هذه المدارس لمدة ثلاثة ايام. وشارك في هذا الاضراب موظفو الدولة واصحاب المهن الحرة والمخازن والدكاكين. وكإجراء انتقامي، عمدت سلطات النظام الى اعتقال عشرات الطلاب والمدرسين والمعلمين، واخضعوا لعمليات تعذيب وحشية، واستشهد المعلم والفنان المسرحي حسين دميرجي الملقب "تمبل عباس" اثر التعذيب الوحشي الذي تعرض له، وادعت السلطات انه توفي نتيجة صعقة كهربائية لتسلقه احد عواميد الكهرباء لغرض تعليقه لافتة تندد باجراءات السلطة. وهكذا انتهت تجربة تركمان العراق في تعليم ابناء جلدتهم بلغتهم الأم بشكل مأساوي وفضيع.

لقد اظهر ما عاشته هذه التجربة خلال تلكما السنتين ان نظام البعث لم يكن جادا اطلاقا في الاقرار للشعب التركماني بالحق في تعليم ابنائه بلغتهم الأم. ولقد ظهر فيما بعد ما كان وراء اصدار قرار الاقرار بالحقوق الثقافية للتركمان. فلقد كان وراء اصدار هذا القرار سببان احدهما دولي يتعلق بمكانة العراق في المحافل الدولية،  والثاني يتعلق باوضاع الامن المضطربة داخل العراق انذاك. فقد كانت الجمعية العامة للامم المتحدة قد اصدرت عام 1965 قرارا يلزم الدول الاعضاء  بعدم ممارسة اي شكل من اشكال التمييز العنصري بحق مواطنيها بسبب الدين او العرق او اللغة او القومية، ودخلت الوثيقة التي اعدتها الامم المتحدة بها الصدد حيز التنفيذ في اوائل عام 1969، وكان العراق بين الدول التي وقعت على تلك الوثيقة في نفس العام، واصدر مجلس قيادة الثورة في العراق قرارا بتاريخ 14 كانون الثاني/ يناير 1970 بالمصادقة على تلك الوثيقة ملزما نفسه امام منظمة الامم المتحدة والمجتمع الدولي بعدم ممارسة التمييز العنصري. وبعد عشرة ايام من ذلك صدر قرار اقرار الحقوق الثقافية للتركمان (24 كانون الثاني/ يناير 1970)، وتلى ذلك اقرار مماثل يخص المكون الاثوري، وتبعهما قرار 11 اذار المتعلق بالاكراد، كدليل على ان العراق ملتزم ببنود الوثيقة الدولية المذكورة. وكانت الاحزاب الكردية قد طالبت الحكومة العراقية خلال الاتفاق المبدأي على منح الحكم الذاتي للاكراد بان تشمل منطقة الحكم الذاتي الكردي مدينة كركوك، فاحتج حزب البعث بان كركوك ليست مدينة كردية، بل هي مدينة تركمانية، وكان اصدار قرار الاقرار بالحقوق الثقافية للتركمان مجرد ذريعة لتقوية موقف الحكومة تجاه مطاليب الاكراد تلك. وانطوت بذلك صفحة الاقرار بحق التعليم للتركمان بلغتهم طوال ثلاث وثلاثين عاما انقضت على ذلك.

وبعد اعلان الولايات المتحدة الامريكية منطقة ملاذ آمن في شمال العراق اثر احتلال العراق للكويت، افتتحت مدارس للتعليم باللغة التركية في مدينة اربيل التي كانت ضمن المنطقة الآمنة المشار اليها، وذلك اعتبارا من عام 1992. فقد تم افتتاح 12 مدرسة ابتدائية وخمس دور حضانة في اربيل من قبل الاحزاب التركمانية العاملة هنالك، وبدأ التعليم فيها باللغة التركية مع استخدام الابجدية التركية الحديثة.

وفي عام 2003 تم احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الامريكية، وانشئ فيه نظام سياسي جديد. واغتنم تركمان العراق فرصة تغيير النظام وقاموا بفتح مدارس ابتدائية تقوم بالتعليم باللغة التركية وبالاحرف الحديثة، وذلك في العام الدراسي 2004 – 2005 بل وحتى  قبله. وامام انعدام او قلة المعلمين الذين يمكن ان يتولوا مهمة التدريس هذه، تمت الاستعانة بالادباء والمؤرخين والشعراء التركمان في هذا الامر، فيما تم املاء هذا النقص بعد ذلك بايفاد معلمين الى تركيا وادخالهم دورات في اصول التدريس باللغة التركية. وقد اعترضت وزارة التربية العراقية على افتتاح هذه المدارس في بادئ الامر، غير انها عدلت عن ذلك واعترفت بتلك المدارس بصورة رسمية عن طريق منحها شهادات التخرج لأولئك الطلاب.

ولأول مرة في تاريخ دولة العراق نجد ان الدستور العراقي الصادر في عام 2005 يقرّ بحقيقة وجود شعب في العراق اسمه "الشعب التركماني"، وقد ضمن لهم هذا الدستور حق تعليم ابنائهم بلغة الأم. فقد تضمنت المادة الرابعة من هذا الدستور حق المكون التركماني في تعليم ابنائه في مدارس الدولة الرسمية. اما المادة 125 منه، فقد اكدت مرة اخرى على ضمان حق التركمان في التعليم بلغتهم الأم. واثبتت المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية التي بدات بالتعليم بالتركمانية (التركية) جدارتها في هذا المضمار، بل وتفوقت في النتائج التي احرزتها على كثير من المدارس في انحاء العراق. وفي الوقت الحاضر تستمر الدراسة باللغة التركية في عشرات من المدارس في كركوك واربيل وطوزخورماتو وديالى وبغداد. والجدير بالذكر ان الدراسة في هذه المدارس تتم على شكلين: فالمدارس التي تدرّس جميع الدروس باللغة التركية يطلق عليها اسم "الأساس"، في حين يطلق على المدارس التي فيها درس واحد لتعليم اللغة التركية، بينما يكون تعليم سائر المواد  باللغة العربية اسم مدارس "الشمول".

وجاء قانون وزارة التربية الذي صدر في عام 2013 ليضيف افقا اوسع للدراسة التركمانية، عندما نص على استحداث "المديرية العامة للدراسة التركمانية" ضمن ملاكات الوزارة. ويلاحظ ان هذه المديرية العامة ومعها مديرية الدراسة التركمانية في كركوك تقومان بتقديم خدمات مشرّفة في حقل الدراسة التركمانية.

وفي الأخير يقتضي التنويه الى صدور "قانون اللغات الرسمية" في عام 2013 ، الذي جاء ليضيف لبنة اخرى الى هيكل الدراسة التركمانية في العراق. فقد اعطت المادة السابعة من هذا القانون المجال لفتح مدارس تقوم بالتدريس باللغة التركمانية (التركية) في جميع المراحل الدراسية، اضافة الى اعتبار المادة التاسعة منه اللغة التركمانية لغة رسمية في المناطق التي يعيش فيها التركمان بكثافة. وجاءت المادة الرابعة عشرة منه ليضيف بعدا آخر على الموضوع حينما اعطى الحق لأي مواطن عراقي بأن يؤسس كليات ومعاهد ومراكز ثقافية ومجمع علمي لتقديم الخدمات ولإثراء لغته وثقافته. والمؤمل ان سار الأمر على هذا النهج ان يتمكن تركمان العراق من الحفاظ على لغة وثقافة وعادات هذا المكوّن عن طريق تعليم ابنائه بلغته ليكونوا دعامة لمستقبل افضل لهذا المكون الذي عانى ما عاناه بسبب تعنت وشوفينية السلطات المتعاقبة على حكم وطنهم العراق.