دلالات مقتل "والي العراق" في تنظيم داعش جنوبي كركوك

تصاعدت العمليات الإرهابية في العراق في الشهر الأول من العام 2021، وقد تميزت تلك العمليات بتنوعها وبتوسع رقعتها الجغرافية، مما لا يترك شكاً بأن التنظيمات الإرهابية تستغل عدم الاستقرار السياسي في العراق والمنطقة، خاصة التنظيم الذي يطلق على نفسه "الدولة الإسلامية في العراق والشام"-داعش-، الذي يبدو انه بدء باستثمار التوترات الناتجة عن تقاطع المصالح الخاصة للاحزاب السياسية العراقية المتصارعة وتصاعد وتيرة الصراع الامريكي-الايراني في المنطقة. عدم الاستقرار الحالي في العراق فسح المجال لبقايا تنظيم داعش لترتيب صفوفها، بالدرجة التي تسمح لها بتنفيذ عمليات ارهابية جديدة، تضيف المزيد من الإرباك للأوضاع السياسية والأمنية والإجتماعية والإقتصادية. ففي الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير 2021 سقط 32 قتيلاً و110 جريحاً نتيجة تفجير انتحاري مزدوج في سوق شعبي بساحة الطيران، القريبة من ساحة التحرير التي شهدت سلسلة إحتجاجات واسعة، إنطلقت في  تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ، ضد الحكومة والاحزاب السياسية المتحكمة بالمشهد السياسي في العراق.

توقيت هذا الحادث الإرهابي ومكانه أثارا كثيراً من التساؤلات والشبهات، حول كيفية حصول هكذا خرق امني بعد قرابة سنة ونصف من انقطاع العمليات الانتحارية في العاصمة بغداد. من حيث التوقيت، جاءت هذه التفجيرات الارهابية بعد يومين من تأجيل الموعد المقرر سلفاً للانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، إذ قرر مجلس الوزراء العراقي قبيل هذا الحادث الإرهابي تأجيل موعد هذه الانتخابات، من شهر حزيران/ يونيو 2021 الذي حدده رئيس الوزراء الكاظمي مسبقاً، إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بناءاً على اقتراح قدمته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق. وقد فسرت هذه التفجيرات على انها محاولة لعرقلة الجهود التي تقوم بها الحكومة العراقية، لتحقيق انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، بعيداً عن سطوة السلاح المنفلت.

هذه العملية الارهابية جاءت بعد يوم واحد من تسلم جوزيف بايدن مهامه كرئيس جديد للولايات المتحدة، وهو مرشح الحزب الديمقراطي، وصاحب المشروع المعروف لتقسيم العراق الى ثلاثة اقاليم. وبسبب التجارب السيئة للعراقيين مع تكرار هكذا نوع من العمليات الارهابية، تفجيرات انتحارية وسيارات مفخخة، خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما (وهو ديمقراطي أيضاً) ونائبه آنذاك جوزيف بايدن (20 كانون الثاني 2009 – 20 كانون الثاني 2017)، بدأ الحديث يدور حول احتمالية عودة التهديدات الارهابية إلى الساحة العراقية من جديد، وتوسع نشاط التيارات الدينية المتشددة، في المناطق التي تتمتع باستقرار نسبي في العراق بعد الحاق الهزيمة بداعش في 2017.

 اختيار الارهابيين لساحة الطيران بالقرب من ساحة التحرير، وهي أيقونة انطلاق الاحتجاجات ضد الفساد والفشل السياسي للاحزاب الحاكمة، فتح الباب لنقاشات كبيرة وخطيرة، وذلك نتيجة توجيه الاتهامات للجهات المسلحة المدعومة من إيران، والتي تتبنى نهج العمل المسلح ضد الوجود الأمريكي في العراق، بانها تقف وراء هذه التفجيرات، وفسر البعض هذا الحادث الإرهابي على انه انتقام تقوم به الاحزاب والجماعات المتورطة في الفساد الاداري والمالي، وذلك اما من خلال توظيف سلاح الجماعات الخارجة على القانون، أو من خلال التراخي في ملاحقة عناصر تنظيم داعش الإرهابي في العراق.

بعد تفجيرات ساحة الطيران نشطت بقايا تنظيم داعش في العراق، ونجحت في تنفيذ عدة هجمات دموية، كان آخرها استهداف قوة للحشد الشعبي، ليلة الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2021، في محافظة صلاح الدين، شمال بغداد، مما أدى إلى مقتل وإصابة نحو 20 عنصراً من الحشد. على الرغم من هذه العملية قد تكون بددت كثير من التفسيرات التي سوقت حول تفجيرات ساحة الطيران، من قبل اطراف محلية واقليمية لأسباب سياسية، إلا انها من جانب آخر فتحت الباب لبعض الأطراف السياسية الاخرى، خاصة الاحزاب السياسية التي تملك أجنحة عسكرية داخل الحشد، ومكنتها من استغلال حادثة صلاح الدين لاستعادة تأييد جمهورها، الذي فقدته نتيجة تداعيات احتجاجات تشرين 2019. وفي الوقت نفسه بدأت المجتمع السني الذي ينتشر في مدنه الحشد، يتخوف من تكرار سيناريو عودة داعش، وبالتالي عودة تهجيرهم أو وقعوهم ضحية للارهاب وللحرب ضد الإرهاب مرة ثانية.

وبالحديث عن إستخدام الطائفية كوسيلة لكسب تعاطف الجماهير في الانتخابات البرلمانية القادمة، حذر السيد مقتدى الصدر (زعيم التيار الصدري) بعد الأحداث الارهابية الاخيرة، من أي فعل من شأنه ان يضر بالسنة، وذلك لكونهم أكثر الناس تضرراً من الارهاب. رسالة الصدر لقت ترحيباً من الاوساط الشعبية.

ردات الفعل القوية للاستهدافات الأخيرة، أجبرت الحكومة على مجموعة من الخطوات، منها إقالة بعض القادة الأمنيين في بغداد، والمباشرة بعملية عسكرية لملاحقة فلول الإرهاب سميت بـ"ثأر الشهداء" ، نتجت عن تلك العملية اعتقال وقتل عناصر منتمية الى تنظيم داعش، في مناطق مختلفة من العراق، وكان آخرها، أو أهمها، قتل القيادي الداعشي "أبو ياسر العيساوي" الذي يطلق عليه تسميات "نائب الخليفة عبدالله القرشي" و "والي العراق"، بعملية استخبارية نوعية في وادي الشاي جنوبي كركوك، بالاضافة الى مقتل قيادات أخرى من داعش، مثل "مسؤول الطبابة"، و"مسؤول الجهد الهندسي"، و"مسؤول الأجهزة الإلكترونية والاتصالات" في هذا التنظيم الإرهابي.

بعد العمليات الارهابية في بغداد وصلاح الدين، أصبحت حكومة مصطفى الكاظمي موضع انتقاد، نتيجة إخفاقها في محاربة الفساد وتواطئها في المحاصصات الحزبية في المناصب الحكومية، بالاضافة الى الفشل في توفير الحماية من العمليات الانتحارية والتفجيرات الارهابية. التطورات الامنية الخطيرة في بغداد وغيرها من الملفات التي لم يعالجها الكاظمي، قلل من رصيده الشعبي بشكل كبير جداً. اضف الى ذلك الحملات الإعلامية المعادية التي تشنها الأحزاب السياسية ضد حكومة الكاظمي، بسبب اختلاف توجهاتها مع توجهات الكاظمي في الكثير من المسائل، أهمها محاربة الفساد، حيث تشعر تلك الأحزاب بأن أي مساس بالفساد المستشري، يعد مساساً بسلطة تلك الأحزاب وامتيازاتها.

 منذ الاعلان الرسمي للانتصار على هذا التنظيم في 2017، لم تنقطع العمليات الارهابية التي تقوم بها عناصر داعش في المحافظات المحادية لاقليم كردستان العراق، خاصة محافظتي كركوك وديالى وصلاح الدين، إلا أن الخروقات التي كانت تحصل لم تكن لها صدى سياسي واجتماعي كبير في العراق.  مقتل والي العراق وغيره من قيادات التنظيم بعملية عسكرية مشتركة من القوات الامنية العراقية وطيران التحالف الدولي، عزز من موقف الكاظمي ضد خصومه السياسيين، ومن المحتمل ان تلقى هذه الخطوة صدى ايجابي لدى الاوساط الشعبية. من جانب آخر، هذه العمليات أكدت الحاجة الى التنسيق مع الجهات الدولية، خاصة في المجال الاستخباري، من أجل تحييد ومنع عودة نشاطات تنظيم داعش الإرهابي، خاصة مع مجيء الرئيس الأمريكي الجديد بايدن، فهناك تخوف لدى البعض من ان التعاون الأمني ضد داعش، بين القوات المسلحة العراقية وقوات التحالف الدولي، ربما لن يرقى الى المستوى المطلوب لشل قدرة داعش من شن هجمات جديدة.

ضرب القيادات الارهابية في منطقة وادي الشاي جنوب مدينة كركوك، وهي المنطقة التي شهدت سلسلة من العمليات العسكرية لتعقب الخلايا داعش، من غير المنتظر أن تأت بنتائج كاملة، ما لم تتم إعادة النظر في المسألة الأمنية في المثلث الذي يقع بين محافظات كركوك وديالي وصلاح الدين، وتطهير سلسلة تلول حمرين التي تعرف بانها الملاذ الآمن للعناصر الارهابية، نتيجة تضاريسها الصعبة وبعدها عن المدن الكبيرة. فمن المعروف أن تنظيم داعش الإرهابي بإمكانه يملأ الفراغ الذي تركه الارهابي "أبو ياسر العيساوي" ويعاود نشاطه بفترة قصيرة.

 الى جانب البعد الأمني لعملية قتل والي العراق في تنظيم داعش هنالك بعد سياسي مهم، وهو حصول هذا الحادث في إحدى أهم المناطق المتنازع عليها بين بغداد واربيل وهي محافظة كركوك، التي كانت مسألة الامن فيها موضع حديث منذ نهاية مدة حكومة عادل عبد المهدي وبداية حكومة الكاظمي، فقد تم تأسيس مراكز تنسيق بين القوات العراقية وقوات البشمركة التابعة لحكومة اقليم كردستان العراق، لمعالجة الخروقات الامنية. ولكن خطوات حكومة الكاظمي قوبلت برفض شديد من التركمان والعرب في كركوك، سياسياً وشعبياً، وأبدوا معارضتهم الشديدة لأي خطوة من شأنها ان تفتح المجال لعودة البشمركة الى المناطق المختلطة (المتنازع عليها).

 على الرغم من تمكن داعش من القيام بعمليات ارهابية ضد القوات العراقية والمدنيين في جنوب كركوك وشرق صلاح الدين وشمال ديالى، إلا أن التنسيق الأمني وتبادل المعلومات بين مختلف صنوف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية العراقية في تلك المناطق، بما فيها القوات الأمنية التابعة لإقليم كردستان العراق، ما زال غير متكاملاً، بسبب عراقيل وتحفظات تصنعها الأطراف السياسية لعدم وجود الثقة بينهم. الحكومة المركزية العراقية قامت بخطوات فسرت على انها تمهيد لتفعيل قرار فتح مراكز التنسيق المشتركة بين القوات العراقية وقوات البشمركة الكوردية، من اجل معالجة الفراغ الامني الذي يستغله تنظيم داعش. من تلك الخطوات سحب الشرطة الاتحادية من قضاء الدبس والتون كوبري وشوان وليلان الى مناطق أخرى، ونشر الجيش العراقي في هذه المناطق التي لها حدود مباشرة مع الاقليم، وذلك للخبرة التي يمتلكها الجيش العراقي في التنسيق مع قوات البشمركة، وعدم وجود توافق لتحقيق التنسيق بين قوات الشرطة الاتحادية والقوات الكردية. ان وجود قيادات من الصف الاول في تنظيم داعش في المناطق المتنازع عليها، خاصة في محافظة كركوك، يبقى يشكل تهديداً كبيراً، ويتطلب من الحكومة المركزية إتخاذ خطوات جدية من أجل القضاء على الخلايا الارهابية في هذه المناطق.

الى جانب استغلال مقاتلي داعش النزاع الأمني بين المركز والاقليم، هناك مجموعة اخرى من العوامل التي تساعد داعش في الاستمرار في عملياتها الارهابية، أولها ضعف تدريب وتسليح القوات الموجودة بكافة صنوفها في مناطق شرق صلاح الدين (طوزخورماتو وامرلي)، وفي شمال ديالي (خانقين، جلولاء والعظيم)، وجنوب وجنوب غرب كركوك (حويجة وداقوق)، خاصة في المناطق النائية التي تشكل خط الصد الأول للعناصر الارهابية. فمعظم العجلات والآليات التي تملكها القوات العراقية في تلك المناطق غير مصفحة، بما فيها عجلات فصائل الحشد الشعبي، مما يجعل إنفجار أي لغم أرضي أو أي استهداف مباشر لهم يكون قاتلاً، وهذا يؤثر على الحالة المعنوية لتلك القوات، لذلك نجد كثير من الجنود في تلك المناطق يحاولون التملص من واجباتهم، عبر الإتفاق مع آمريهم على عدم الحضور في الواجبات، مقابل التخلي عن جزء من راتبه لهؤلاء الآمرين. بالاضافة إلى التعامل غير المهني للقيادات الأمنية في تلك المناطق مع منسوبيهم، إذ يتعاملون معهم على أساس المحسوبية وعدم الإكتراث بأوضاع المقاتلين في الخطوط الامامية. فعلى سبيل المثال، بعض القيادات الأمنية تجعل منسوبيهم الذين تربطهم بهم صلة ما حمايات شخصية أو ينشرهم في المناطق الآمنة، وفي المقابل يدفع الجنود الآخرين إلى الخطوط الأمامية. أن المحسوبية والفساد المنتشر في مختلف صنوف القوات الأمنية الموجودة في تلك المناطق، بما فيها فصائل الحشد الشعبي، تعطي حافزاً للارهاب للتوسع اكثر، والعراق لديه تجربة مريرة مع دور الفساد في تمكين الارهاب، وذلك عندما تمكن تنظيم داعش من السيطرة على أراضي شاسعة في 2014، وقتها كثير من الجنود الذين سالوا عن سبب تركهم السلاح وعدم قيامهم بواجب التصدي ضد داعش في الموصل، كان جوابهم بإنهم كانوا لا يحصلون على أبسط المتطلبات وهي الفطور الصباحي!

من أهم العوامل التي تعطي مرونة كبيرة لتنظيم داعش للقيام بعمليات إرهابية في مختلف مناطق العراق بصورة عامة، وفي المناطق المتنازع عليها بصورة خاصة، هي عدم وجود مرجعية أمنية واحدة، وهذا ما تحدث به رئيس الوزراء العراقي الكاظمي بعد حادثة ساحة الطيران، وأشار إلى تعدد مراكز القرار في الملف الامني. فعلى سبيل المثال في محافظة كركوك يوجد مجموعة متنوعة من الأجهزة الامنية، الجيش العراقي، والحشد الشعبي (بمختلف فصائله وكتائبه)، والشرطة الاتحادية، وقوات خاصة تابعة الى رئاسة الوزراء لواء 61، وقوات بيشمركة في مناطق محدودة، والشرطة المحلية، والحشد العشائري. على الرغم من جمع هذه القوات تحت سقف قيادة العمليات المشتركة، الا ان كثير منها يكون ولائها والتزامها لارتباطاتها السياسية والطائفية والعرقية وليس لمرجعياتها الرسمية المفترضة. مما يربك العمل الأمني ويفتح الباب أمام العناصر الارهابية لاستهداف هذه القوات والمدنيين على حد سواء. لذلك بدون جهود من الحكومة المركزية في بغداد وحكومة الاقليم في اربيل لفصل المؤسسات الأمنية عن الاطراف السياسية، سيبقى الارهاب يستغل اي حدث سياسي وأي خلاف سياسي لتحقيقق اهدافه في زعزعة أمن واستقرار عموم البلاد وخلق شرخ مجتمعي من خلال اثارة النعرات الطائفية.

ختاماً فأن التنوع الديني والمذهبي والقومي الموجود في العراق، يجعل اي خرق أمني يحدث فيه يحمل تفسيرات كثيرة، اضف الى ذلك فوضى انتشار السلاح في هذا البلد، وهذا يجعل هكذا نوع من التكهنات مقبولة، لدى كثير من الأفراد والجهات، المحلية والدولية. وهذا ما يتطلب من الحكومة العراقية والقوات الأمنية مضاعفة الجهود لمنع اي استهداف أمني يعطي فرصة للأطراف التي تحاول إثارة الفتن، خاصة في المناطق التي تعرف بانها مختلطة دينياً أو مذهبياً أو عرقياً، كما أن الحكومة العراقية المركزية مطالبة بتأسيس تنسيق أمني عال المستوى مع اقليم كردستان العراق، مع مراعاة مخاوف وهواجس الاطراف التركمانية والعربية في المناطق المختلطة (المتنازع عليها). من أجل خلق مؤسسات أمنية قوية قادرة على حماية المواطنيين والممتلكات الخاصة والعامة، ومنع حدوث اي خرق أمني. الحكومة المركزية كذلك يجب أن تهيء الأرضية المناسبة لتوحيد القرار الأمني، والعمل على فك ارتباط الاجهزة الأمنية بأي طرف سياسي، بما فيها الحشد الشعبي والبشمركة والحشد العشائري، وذلك إما من خلال تغيير القيادات أو فرض قواعد صارمة في العمل الأمني والعسكري. فيما يتعلق بمسالة الفساد المالي والاداري المنتشر داخل بعض المؤسسات الأمنية، فانها أخطر مسألة تهدد حياة المواطنين والسلم الاجتماعي ووحدة البلد، لانها تكشف الأمن أمام الارهاب والجهات التي تحاول ان تستغل مواطن الخلل في الاجهزة الامنية.