بين نتائج الانتخابات في لبنان ونتائج الانتخابات في العراق: صورتان لمشهد واحد

أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت في لبنان في أيار/ مايو 2022 وفي العراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وجود غضب جماهيري تجاه الأنظمة السياسية في هذين البلدين الغارقين بالمشاكل الاقتصادية والأمنية والسياسية منذ سنوات، حيث يواجه البلدان أزمات أفرزتها التدخلات الخارجية في سياساتهما الداخلية من جهة، والتخندق الطائفي الذي يطغى على المشهد السياسي والاجتماعي فيهما من جهة أخرى، وإن كانت بذور هذا الانقسام قد زُرعت في البلدين في فترات مختلفة، في لبنان خلال الحرب الأهلية 1975-1990، وفي العراق ظهر هذا الانقسام جلياً بعد الغزو والاحتلال الأمريكي لهذا البلد في 2003، وما تبع ذلك الاحتلال من تدخلات خارجية في شؤون العراق الداخلية، جعلت من العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، وحتى الدولية، بخاصة الصراع الأمريكي-الإيراني.

تشابه المشهد السياسي في العراق ولبنان لم يأت من قبيل الصدفة، بل كانت هناك خطوات واضحة لاستنساخ التجربة اللبنانية وتطبيقها في العراق بعد 2003، مع وجود فوارق اقتصادية بين البلدين، كون العراق يملك إمكانات وموارد لا يملكها لبنان، الذي يعيش اليوم أزمة اقتصادية غير مسبوقة. عمق النظام الطائفي الذي فرضه اتفاق الطائف 1989 في لبنان لإنهاء الحرب الأهلية الانقسام الاجتماعي، لكنه وضع لهذا الانقسام إطاراً قانونياً بمثابة الاتفاق، على جعل رئيس مجلس النواب شيعياً ورئيس الحكومة سنياً ورئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً. هذا النظام تم استنساخه في العراق دون التحسب لسلبياته وانعكاساته على المجتمع، فأصبح العرف السياسي في عراق ما بعد 2003 ينص على أن يكون رئيس البرلمان في العراق سنياً ورئيس الحكومة شيعياً ورئيس الجمهورية كردياً.

راكم تطبيق المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب المهمة في الدولة في البلدين على مدى سنوات جملةَ أزمات عجزت الطبقة الحاكمة عن حلها، أو ربما لم تكترث لإنهائها بسبب انشغالها بإدارة مصالحها الحزبية والفئوية، وبسبب تماهي هذه الطبقة مع أجندات خارجية تنسجم مع مصالحها، ما تسبب بغضب الشعبين اللبناني والعراقي وفجر احتجاجات واسعة، تزامنت في كلا البلدين في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. برغم توقف تلك الاحتجاجات إلا أن هذا الغضب الشعبي استمر لغاية إجراء الانتخابات النيابية في البلدين، وتمت ترجمته إلى تغيير واضح في نتائجها. لا يمكن التكهن بجدوى هذا التغيير في النتائج الانتخابية وتأثيره في مستقبل البلدين، وقدرته على إحداث تحول حقيقي في أوضاعهما، لأن مستقبل هذين البلدين أصبح مرهوناً بشكل كبير بالتوازنات الجيوبوليتيكية في المنطقة.

خريطة سياسية جديدة في لبنان وملامح تعطيل تلوح في الأفق
أفرزت الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان قوائم سياسية جديدة من المستقلين، حصلت على 13 مقعداً في مجلس النواب، قوائم أعتبرها اللبنانيون منبثقة من روح احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر، التي انطلقت ضد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد، وزادت وتيرتها بعد انفجار مرفأ بيروت في آب/ أغسطس 2020 الذي راح ضحيته أكثر من 218 شخص بينهم مفقودون، وإصابة قرابة 7000 آلاف آخرين، إضافة إلى خسائر مادية كبيرة في الممتلكات العامة والخاصة، ذلك الانفجار الذي لازالت معالمه لغاية اليوم محفورة على جدران مدينة بيروت، وفي عقول وضمائر اللبنانيين، تلك الحادثة جسدت بشكل كبير فشل وإهمال وفساد الحكومات المتعاقبة.

نتائج الانتخابات وإن أخرجت المشهد السياسي في لبنان (جزئياً) من الهيمنة الكلية للأحزاب التي استحوذت على الحياة السياسية على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، إلا أن تلك الأحزاب لا تزال تحصد مقاعد كثيرة، ما يتناقض مع الغضب الشعبي عليها، وهذا ما يطرح تساؤلات عن إمكانية تغيير الوضع السياسي في لبنان، فالتيارات السياسية التي خرج الشعب يهتف بسقوطها في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر ويطالب بخروجها من المشهد السياسي حصدت مقاعد ستعيدها إلى دفة التحكم بالحياة السياسية اللبنانية ومصير البلد، وإن ظهرت تيارات سياسية جديدة ولدت من رحم الاحتجاجات.

حصل حزب الله وحليفه حركة أمل على كل المقاعد الـ28 المخصصة للشيعة، لكن هنالك تراجعا واضحا في نتائج تحالفهم مع القوى السياسية لباقي الطوائف اللبنانية، تحالف "قوى 8 آذار"، الذي يضم حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وأحزابا أخرى، حيث خسر هذا التحالف أغلبيته النيابية مع تراجع عدد مقاعده من 71 في انتخابات 2018 إلى 61 في هذه الانتخابات الأخيرة، من أصل 128 مقعد تمثل مجمل مقاعد مجلس النواب اللبناني. حيث خسر التيار الوطني الحر، بزعامة جبران باسيل، تمثيل الكتلة المسيحية الأكبر بحصوله على 17 مقعداً مقابل حصول القوات اللبنانية على 19. هذا الأمر سيقلل بطبيعة الحال من تأثير تحالف "قوى 8 آذار" داخل مجلس النواب، لكنهم لازالوا قادرين على التعطيل، وهذا ما يجعل المشهد السياسي في لبنان بعيداً عن حدوث التغيير في المدى القريب، لأن جميع القوى السياسية اللبنانية هي الآن بانتظار معضلة تشكيل الحكومة وتسمية رئيس جمهورية، وتلك الخطوات تحتاج إلى توافق ربما يصعب تحقيقه في ظل الوضع السياسي الراهن.

لا تحسم الانتخابات في لبنان بمجرد فوز كتلة أو خسارة أخرى، لأن التركيبة السياسية في هذا البلد تحتاج إلى اتفاق بين الكتل على اتخاذ القرارات المصيرية، مثل تكليف رئيس الحكومة واختيار رئيس جمهورية، واقع سياسي لا يختلف كثيراً عما يحدث في العراق، الغارق اليوم في أزمة سياسية بدأت منذ الانتخابات الأخيرة، وما زال أفق إنهاءها غير واضح في ظل الخلافات القائمة بين القوى السياسية.

الانسداد السياسي في العراق
احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر في العراق، وبالرغم من أنها توقفت بسبب تفشي وباء كورونا، إلا أنها أفرزت واقعاً اجتماعياً وسياسياً جديداً، ربما يعتبر بذرة للتغيير الحقيقي في أوضاع هذا البلد، حيث انعكست تداعيات هذه الاحتجاجات على نتائج الانتخابات الأخيرة، وتمكنت أحزاب منبثقة من روح هذه الاحتجاجات من دخول الانتخابات والفوز بمقاعد فيها.

فوز حركة "امتداد" بـ9 مقاعد، وإشراقة كانون بـ6 مقاعد، وهما قائمتان مستقلتان تدعيان انتمائهما إلى احتجاجات تشرين، هي الترجمة الحقيقية لفرصة نجاح الأحزاب المستقلة في الدخول للحياة السياسية، حتى وإن فشل مشروعها في المستقبل وأخفقت في تحقيق أهدافها، فهي بذرة لتجربة يُبنى عليها للمستقبل. لم يقتصر التغيير على فوز أحزاب وشخصيات مستقلة بمقاعد في مجلس النواب العراقي، بل أنه طال حتى الأحزاب القديمة التقليدية التي اعتادت تصدر المشهد في كل انتخابات، فقد تراجعت نتائج تحالف الفتح الممثل الرئيس لفصائل الحشد الشعبي في العملية السياسية بحصوله على 17 مقعدا، بعدما حصل على 48 مقعداً في انتخابات 2018.

تغير الخريطة السياسية في العراق بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، والتفاؤل الذي تبعها بإمكانية تغيير الواقع برمته، لم يمنع القوى الخاسرة (الإطار التنسيقي الشيعي وحلفائه) من عرقلة تشكيل الحكومة، وحتى اختيار رئيس الجمهورية، واخفاق مجلس النواب الجديد من عقد جلسة اختيار رئيس الجمهورية مرات عدة، تأخير هدفه كسب الوقت لإنشاء تحالفات جديدة تقوي موقع هذه الأحزاب داخل البرلمان، وربما كسب الوقت لخلق خلافات داخل تحالفات أخرى والاستثمار في تلك الخلافات. ما حدث مؤخراً في حركة امتداد خير دليل على ذلك، والخلافات التي نشبت داخل الحركة والتي دفعت خمسة من نوابها إلى الانشقاق عنها، خلافات انتهت بإعفاء عضو مجلس النواب علاء الركابي من منصب الأمين العام للحركة، والسبب (المعلن) هو خروج الحركة عن مبادئ تشرين، وتفرد الركابي بالرأي، بحسب أعضاء الحركة، وهو ما راهن عليه الكثيرون في فشل القوى السياسية الجديدة (المستقلة) من إثبات جدارتها السياسية، بسبب عدم امتلاكها خبرة لخوض الحروب السياسية، والمساومات التي ترافقها.

من المتوقع أن سيناريو التأخر الحالي في تشكيل الحكومة في العراق سيعاد تطبيقه في لبنان، لأن البلدين أصبحا متشابهين في ظروفهما السياسية وفي درجة تأثير العوامل الخارجية على شؤونهما الداخلية، بخاصة التدخلات الايرانية، فقرار تشكيل الحكومة واختيار رئيس الجمهورية في لبنان إن لم يحقق التوافق المطلوب بين جميع القوى السياسية اللبنانية، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل السجالات والخلافات الحالية بين تلك القوى السياسية، فمن المحتمل جداً أن الثنائي حزب الله وحركة أمل وحلفائهما سيشرعون بتنفيذ سيناريوهات لعرقلة وتعطيل الاستحقاقات الزمنية الدستورية لتشكيل الحكومة، مشابهة لما يقوم به حالياً الإطار التنسيقي الشيعي وحلفائه في العراق.