التمدد الروسي في أفريقيا: السودان إنموذجاً

في المخيال الرسمي والشعبي تنظر روسيا الاتحادية إلى نفسها بوصفها قوة عالمية، وهذا ليس وليد اليوم أو الأمس القريب، وإنما منذ تحولها إلى قوة مهمة في أوروبا بعد وفاة الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية عام 1796، وقد اقتضت معادلات الجغرافيا السياسية أن تبحث روسيا باستمرار عن موطئ قدم لها على المياه الدافئة، فهي بالنهاية بحسب ماكيندر تعتبر واحدة من القوى البرية العالمية، ولا شك في أن الامبراطوريات الحديثة التي هيمنت على العالم كلها كانت إمبراطوريات بحرية، وإلى اليوم تمتلك الولايات المتحدة أساطيل بحرية تجوب كل محيطات وبحار العالم.

ان إنشاء روسيا لقاعدتها العسكرية الجديدة في حميميم وتعزيز قاعدتها القديمة في ميناء طرطوس على السواحل الشرقية للبحر المتوسط بسوريا، بعد تدخلها العسكري في هذا البلد، يعد تحولاً جيوستراتيجياً مهماً في سياق المساعي الروسية للوصول إلى المياه الدافئة، ويمكن تصنيف هذه الخطوة بأنها من أهم الاختراقات الاستراتيجية التي حدثت في تاريخ روسيا الاتحادية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ولعل الاختراق الآخر الروسي للمنطقة تمثل في  بناء قاعدة الإمداد والدعم اللوجستي العسكري الروسية في ميناء بورتسودان بالسودان، وهكذا أصبح لروسيا وجود عسكري على سواحل البحرين المتوسط والأحمر في بضع سنين.

لم تتوقف مساعي روسيا خلال العقدين السابقين للحصول على موطئ قدم عسكري في أفريقيا، عبر تفاوضها منذ العام 2008 مع الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح لبناء قاعدة عسكرية في عدن تطل على منطقة القرن الأفريقي، والاتفاق مع جيبوتي على وجود عسكري روسي على أراضيها عام 2014، ومع إرتيريا عام 2018، وهي خطوات تأتي كجزء من تنافس بين القوى العالمية على مناطق النفوذ في أفريقيا، يذكرنا بالتعبير الشهير Scramble for Africa  أو "الاندفاع نحو أفريقيا"، الذي استخدمته صحيفة التايمز البريطانية أثناء تغطيتها لمؤتمر برلين عام 1884، وإذا كانت الموجة الثانية من "الاندفاع نحو أفريقيا" قد انتهت بنهاية الحرب الباردة، فإن ما نشهده في السنوات الأخيرة يمكن أن نعتبره الموجة الثالثة لهذا التنافس العالمي، حيث يتواجد في منطقة الساحل الأفريقي أكثر من 5000 جندي فرنسي حسب تقرير لقناة BBC البريطانية، وما يقارب من 46 موقعاً عسكرياً للولايات المتحدة في القارة الأفريقية، فضلا عن إدارة 16 دولة بما فيها الهند، الصين، اليابان، تركيا وإسرائيل لـ 19 قاعدة عسكرية في منطقة القرن الإفريقي.

بالعادة تتوجه الأنظمة السياسية الشمولية التي تعاني من الحصار والعقوبات الغربية نحو تقوية الشراكة والتعاون مع روسيا، وهذا ما حدث مع كثير من الدول مثل ليبيا، سوريا، إيران ولم يشذ السودان عن هذه القاعدة، فقد أخذ السلاح الروسي الحصة الأكبر من صفقات التسلح السوداني بنسبة تصل إلى 80% في السنوات الأخيرة، ولأن النظم العسكرية في المنطقة – وفي العالم بشكل عام- هي عبارة عن منظومات متكاملة لا تزول بزوال الدكتاتور، فإن العلاقات الدولية تستمر على نفس وتيرتها بعد زوال رأس هذه النظم، وهذا ما حدث في السودان وفي كثير من دول المنطقة، بل إن النظم السلطوية تتعمق علاقاتها مع الطرف الروسي عندما تتعرض لاهتزازات كبرى، لأنها تنظر إلى موسكو كمخلص قوي من الضغوطات الغربية التي تحمل –ظاهريا- أجندات الليبرالية والديمقراطية.

تشير تجارب المنطقة إلى أن نظم الحكم التي لم يسقط فيها الرأس استطاعت أن تستدعي تدخلاً رسمياً روسياً لإنقاذها، وهذا ما نجح –لحد الآن- في سوريا، أما النظم التي سقط رأسها فإن منظوماتها للحكم قد طورت أساليب بديلة للاستدعاء الروسي، وذلك من خلال الاستعانة بالقنوات غير الرسمية لروسيا وعلى رأسها مجاميع المرتزقة الروسية مثل فاغنر، وغيرها من شركات الخدمات الأمنية والاقتصادية، كذلك من الأساليب الجديدة التي اعتمدتها الأنظمة الشمولية في المنطقة للاستعانة بروسيا، هي الاستشارات المتعلقة بالأمن السيبراني ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي والتحكم فيها، لتعقب المعارضين، وقد كانت هناك اتهامات لفاغنر بارتكاب جرائم قتل وتصفية في السودان، إضافة لمشاركتهم في قمع الاحتجاجات عام 2019.

أدى التدخل الروسي المبطن في السودان خلال احتجاجات العام 2019 إلى فتح العديد من القنوات الاقتصادية بين البلدين، وإبرام تعاقدات بين الحكومة السودانية وشركات روسية مثل ميرو غولد وكوش، تتضمن أحقية هذه الشركات في بناء مطارات واستخدام المطارات والموانئ والبنى التحية السودانية، بل وحتى إنشاء شبكات اتصال خاصة، ولا شك أن مثل هذه التدخلات تقتضي تنازلاً من الدولة عن بعض صلاحياتها العتيدة، ومنها منظومة الأمن الرقمي، وخصخصة حراسة الشخصيات المهمة، وتقديم التنازلات على مستوى تنقل الأشخاص عبر المنافذ الحدودية، وصولا إلى التنازل عن المقدرات الاقتصادية خارج الاطر القانونية والدستورية وخارج أي رقابة سياسية، قضائية، أو شعبية.

في الحقيقة، يعتبر التعاقد مع الشركات الأجنبية لإنجاز بنى تحتية واستخدامها أمراً شائعاً وطبيعياً بين الدول، بشرط أن يخضع للأطر الدستورية والقانونية الموضوعة سلفاً في أي دولة، لكن ما هو غير طبيعي في الدول الهشة، هو تفويض انجاز وإدارة المرافق الاستراتيجية للشركات الأجنبية خارج الأطر القانونية، علماً انها أطر أصبحت شبه مهمشة في دولة مثل السودان، فلا وجود لبرلمان ولا فاعلية لمؤسسات الرقابة الأخرى، والأخطر هو رهن شبكات الاتصالات لأطراف أجنبية، وهذه تصنف في العلوم الأمنية-العسكرية كسلاح قائم بحد ذاته يسمى سلاح الإشارة، أو سلاح المخابرة، ونحن شاهدنا في دولة مثل لبنان كيف تمسك حزب الله بشبكة اتصالاته الخاصة التي لا تخضع لرقابة الدولة اللبنانية واعتبرها جزءا من منظومة سلاحه، وسيؤدي تفويض السلطة العسكرية في السودان لشركة فاغنر لإنجاز شبكات اتصالاتها الخاصة على إقليمها إلى صعوبات كبيرة، ستواجه أي نظام حكم مدني يأتي في المستقبل للتخلص من القبضة الأمنية الروسية، ولن ينفع التعاون الدولي مع قوى أخرى لتفكيك هذه الشبكة، لأنها شبكات سلكية مخفية محصنة ضد الاختراق الإلكتروني، كمثال على ذلك فشلت إسرائيل رغم تقدمها التقني وحصارها البري والجوي والبحري على غزة في اختراق شبكة اتصالات فصائل المقاومة الفلسطينية وتدميرها. 

تعتبر مناقشة التصرفات القانونية العقدية التي تبرمها نظم الحكم القادمة عن طريق الانقلابات العسكرية مع الاطراف الخارجية، مناقشة تخضع لمعيار مزدوج، المعيار الأول هو معيار الشرعية الذي يعتبرها تصرفات قانونية تستند إلى واقع يقوم على وجود سلطة فعلية تدير الدولة، وهناك معيار المشروعية وتعتبر بموجبه هذه الصفقات باطلة قانونا لأن الجهة التي أبرمتها هي جهة غير تمثيلية، ولكن سرعان ما تتحول هذه التصرفات العقدية إلى تصرفات غير شرعية إذا سقط النظام العسكري وحل محله نظام مدني تمثيلي، يمكنه أن يفتح الملفات القديمة ويلغي الاتفاقيات ويطالب باسترداد الأصول المنهوبة في الخارج.

من الملاحظ أن الشركات الأمنية الأجنبية الخاصة تجد بيئتها الخصبة للعمل في الدول الهشة، وقد احتل السودان المرتبة الثامنة عالميا من بين 179 دولة حسب آخر تصنيف لمؤشر الهشاشة، ومن الملاحظ أيضا أن التشبيك والتعاقدات لا تتم مباشرة بين مؤسسات الدولة الهشة والشركات الأجنبية وإنما تتم بين النظراء، يعني بين الشركات الأجنبية والشركات المحلية الخاصة أو من في حكمها داخل الدولة الهشة، وهي شركات تنشئها النظم العسكرية لتستولي بها على المقدرات الاقتصادية للدولة ولتصب عائداتها في جيوب الطبقة العسكرية والأمنية المسيطرة على الحكم، وقد سبق أن أشار رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك، في إحدى خطبه العامة، إلى أن 80% من الموارد الاقتصادية يتم التحكم فيها بعيدا عن وزارة المالية (يعني ضمنا شركات الجيش) مما أثار حفيظة الفريق البرهان، الذي رد عليه بغضب بأن الحكومة المدنية تحاول أن تحمل مسؤولية فشلها للجيش.

يخشى كبار جنرالات الجيش في السودان من سعي الساسة المدنيين لوضع مئات الشركات التابعة للجيش وأجهزة المخابرات السودانية تحت سيطرة وزارة المالية، حيث تعمل هذه الشركات في أنشطة تجارية وصناعية وزراعية لا علاقة لها بالصناعات العسكرية، وتنشط في تجارة المحاصيل والمواشي والتنقيب عن الذهب وتهريبه والمضاربة في أسواق العملات الأجنبية وتتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية واسعة ولا تعود حصائلها للخزينة العامة ولا تخضع لأية رقابة حكومية، وفي هذا السياق أشارت صحيفة ديلي تلغراف إلى أن كمية احتياطات الذهب الروسي تضاعفت 4 مرات منذ 2010 ويشكل الذهب السوداني نسبة كبيرة من هذا الاحتياطي، وأشارت الصحيفة إلى أن استغلال الذهب يتم بالشراكة بين قوات الدعم السريع السودانية وفاغنر الروسية خارج الأطر القانونية بالسودان، وهو ينقل إلى روسيا بطائرات خاصة من المطارات العسكرية المنتشرة في السودان.

تبدو روسيا مطمئنة إلى التحولات التي شهدتها وسوف تشهدها الساحة السودانية في المستقبل، وذلك بسبب متانة العلاقات التي تربطها بعموم النخب المؤثرة في السودان، لاسيما العسكرية والأمنية منها، وهذا ما دفع بشخصية مثل يفغيني ساتوفسكي وهو رئيس معهد الشرق الأوسط في روسيا للتصريح  بأن "ما يحرك القوى المتصارعة في السودان هو السلطة والمال، وأيا من يكون المنتصر في السودان فإن ذلك لن يؤثر على المصالح الروسية هناك".