أسباب الأزمة السّياسية في تونس وتأثيراتها

تمر تونس في الوقت الرّاهن بجملة من الأزمات المركّبة؛ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعية، الأمر الذي دفع بالكثير من السّياسيين إلى إطلاق تحذيرات من أن ما حققته البلاد خلال عقد من الزّمن في مجال الديمقراطية والحريات قد تعصف به هذه الأزمة نظرًا إلى تعقّدها، ونظرًا كذلك إلى استماتة أطراف داخلية وخارجيّة في تخريب ما تم إنجازه إلى حدّ اليوم، والانقلاب على المسار الديمقراطي بسبب ما تمثّله التّجربة التّونسية من رمزيّة بعد فشل التجارب العربيّة الأخرى. وقد جاءت أزمة كورونا- كوفيد 19 لتزيد الطّين بلة، وترفع من معدل البطالة، وتهدّد بإفلاس العديد من المؤسسات. وينتاب التّونسيّين القلق بعد أن دفعت شبهات تضارب المصالح برئيس الحكومة إلياس الفخفاخ إلى الاستقالة وعودة المبادرة إلى رئيس الدّولة لاختيار شخصيّة أخرى لتشكيل حكومة جديدة؛ فما أسباب هذه الأزمة السياسيّة، وما تأثيراتها المحتملة في المشهد التّونسي وسيناريوهات الحلّ الممكنة.   

  الأسباب العميقة للأزمة:
بدأت الأزمة مع نتائج الانتخابات في نهاية العام الماضي 2019م بعد أن تشكّل مجلس نواب الشّعب من فسيفساء من الأحزاب والائتلافات البرلمانية ما جعل من مسألة تشكيل حكومة متآلفة وقويّة أمرًا متعذّرًا. فبعد مفاوضات طويلة وعسيرة سقطت حكومة الحبيب الجملي مرشّح حركة النّهضة الحزب الأول في الانتخابات، ولم تحظ بالقبول في البرلمان. ثم آل الأمر إلى رئيس الجمهورية ليختار إلياس الفخفاخ الذي لا يملك حزبُه أيّ مقعد نيابي. وقد وُلدت هذه الحكومة بعد مخاضٍ عسير من عدة أحزاب أهمّها النّهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب إضافة إلى وزراء مستقلّين. تعزّزت الآمال في البداية في نجاح هذه الحكومة باعتبار أنّ أغلب مكوناتها يرفعون شعارات الثّورة وينادون بمكافحة الفساد، وهم غير محسوبين على النّظام القديم. بيد أنه بدا جليا أن ثمة قدرا كبيرًا من عدم الثقة ومن غياب الانسجام بين مكونات هذه الحكومة، عزّز ذلك اختلاف المواقف في قضايا خارجيّة وخصوصًا الموقف من الوضع في ليبيا والتدخل التّركي المباشر في الأزمة.

ومن تجليات غياب الانسجام أن يُطالب حزب التّيار الديمقراطي وحزب الشّعب مثلاً بسحب الثقة من رئيس البرلمان الذي هو شريكهم في الحكم. وقد بدا أنّ حركة النهضة منزعجة جدّا من هذه الممارسات، بالإضافة ما تلاحظه من تنسيق بين رئيس الدّولة وبين هذه الأحزاب، ونُزوع إلى رغبة في تهميش دورها ودور زورائها. ولا يخفى أن الرّئيس قيس سعيد تجاهل الدّعوات لتكريم وزير الصّحة عبد اللطيف المكّي بعد أن حقّقت وزارته نجاحًا شهد له به الجميع في مكافحة وباء كورونا، بل إنّه لم يكلّف نفسه مجرّد استقباله وشكره على ما قدّم.  

وكانت الاتهامات التي طالت رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ بالفساد وتضارب المصالح الشّعرة التي قصمت ظهر البعير، فسارعت النهضة برفقة حلفائها إلى تقديم طلب بسحب الثقة من رئيس الحكومة بعد أن جمعت التوقيعات اللاّزمة لذلك. وردّ رئيس الجمهورية قيس سعيد على هذه الخطوة بأن طالب الفخفاخ بالاستقالة، وهذا ما حصل بالفعل. وبغض النّظر عن ملابسات هذه الاستقالة وتوقيتها، وتشكيك بعض الأطراف السياسيّة في السّردية التي أُخرجت بها وكونها جاءت متأخّرة عن تقديم طلب سحب الثّقة منها في البرلمان فقد عقّدت المشهد أكثر، وأبعدت الشقّة بين حركة النّهضة من جهة وبين التيار الديمقراطي وحركة الشّعب من جهة أخرى، وبدا أنّ البقية الباقية من الثّقة بين الطرفين قد اِنهارت.      

ملامح حكومة ما بعد الفخفاخ:
بعد استقالة حكومة إلياس الفخفاخ عادت المبادرة إلى رئيس الدولة لاختيار الشّخصية الأقدر على تشكيل الحكومة الجديدة وإدارة المرحلة القادمة. ويجدر بنا هنا التّذكير بأن رئيس الحكومة المستقيل كان من اختيار الرّئيس قيس سعيد من بين أسماء عُرضت عليه، والفخفاخ هو من اقتراح حزبي التّيار الدّيمقراطي وحركة الشّعب المقرّبين منه شخصيّا. ويجد الرّئيس نفسه في حرج، فهو يتحمّل جزءًا من المسؤولية بعد اختياره لشخصيّة ليست هي "الأقدر" كما كان مفترضًا أن يكون، وتعلّقت بها شبهات تضارب للمصالح حسب تقارير رسميّة. وهذه الاعتبارات سوف تكون بالتّأكيد حاضرةً في عملية فرز الأسماء التي ستُعرض عليه لاختيار خلف للفخفاخ.

تقول النّهضة إنّها تمكنت إلى حد الآن من تكوين جبهة برلمانية مريحة لتولّي الحكم، يشترك فيها معها حزب "قلب تونس" الذي يَرأسه نبيل القروي، وائتلاف الكرامة بزعامة سيف الدّين مخلوف بالإضافة إلى كتلة المستقبل وأعضاء مستقلّين. وهذه الجبهة تضمّ حوالي 130 عضوًا في حين أن تمرير الحكومة يحتاج إلى 109 أصوات. ولكن لا يُعرف ما إذا كان رئيس الدولة ينوي اختيار مرشح هذه الجبهة الواسعة أم سوف يكون له رأي آخر ليس في حسابات أيّ كان من الأطراف السياسيّة.

وهنا يمكن الحديث عن أكثر من احتمال؛ الاحتمال الأول أن يسعى الرّئيس إلى إصلاح ما اُعتبر خطأً سابقاً باختياره لشخصيّة غير نزيهة وغير جامعة؛ غير نزيهة من جهة ما تعلّق بها من شبهات تضارب مصالح، وغير جامعة من جهة كون الحزب الذي ينتمي إليه الفخفاخ لا يملك أيّ مقعد في البرلمان، فهو إذن لا يستند إلى قاعدة برلمانية صلبة. وهذه الاعتبارات من المفترض أن تعيد تفكير الرئيس إلى الوضع الطبيعي وهو اختيار الشّخصية التي تُرشّحها الأحزاب الكبرى الممثلة في البرلمان لضمان استقرار حكوميّ مستقبلاً، وثانيا لمعالجة الأذى الذي مسّ سمعة الرئيس باختياره لشخصية تبين أنّها ليست في مستوى الأمانة.

أما الاحتمال الثّاني، وهو غير مستبعد كذلك، فهو أن يعمد الرّئيس إلى اختيار شخصية غير توافقيّة بناء على مقاييسه الخاصة في الاختيار، ويضع البرلمان أمام خيارين إمّا القبول بمرشّحه كيفما كان و"لعق السّكين بدمها" كما يقول المثل التّونسي، وهو ما يفتح على توتّرات جديدة وعدم استقرار حكومي في المستقبل، وإمّا رفض هذا المرشّح من قبل البرلمان، وهذا سوف يقود دستوريا إلى ضرورة حلّ مجلس النّواب والدّعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها. وتوجد مؤشرات تدلّ على رغبة الرّئيس في الذّهاب في هذا المسار، فهو لا يولي كبير اهتمام للبرلمان، وعلاقته برئيسه راشد الغنّوشي ليست على ما يُرام، وبرنامجه الذي سوّق له أثناء الانتخابات يقوم على تغيير النّظام السّياسي ليصبح رئاسيّا، ثم إنّه غير متحمس للتّعامل مع البرلمان ولا مع الأحزاب.

مخاطر الذهاب إلى الانتخابات:
إن احتمال حل البرلمان والتّوجه نحو انتخابات سابقة لأوانها يبدو مجازفةً بمعاني عديدة؛ مجازفةً بمستقبل العملية الديمقراطية برمّتها، فحلّ البرلمان في وضع اقتصادي مأزوم بعد ما سببته أزمة كورونا من مصاعب، ووضع إقليميّ أمني متوتّر خصوصًا في الجارة ليبيا التي تُدقّ فيها طبول الحرب، بالإضافة إلى التدخّلات السّافرة من قبل بعض الدّول وخصوصًا الإمارات العربية لتخريب العملية الديمقراطيّة في تونس، كلّ ذلك يلقي بالشكوك على إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة في البلاد كما حدث في مناسبات سابقة، وتعرّض البناء الديمقراطي برمته للتّخريب. وحتى لو جرت الانتخابات فالرّاجح أنّها سوف تشهد عزوفًا كبيرًا من قبل المواطنين بعد أن لاحظوا أن أصواتهم تذهب هدراً في كلّ مناسبة انتخابيّة ولا تغيّر من واقعهم شيئاً، بل إن أحوالهم تزداد سوء. وفي هذه الحالة سوف تُمسّ مصداقية العملية الانتخابية برمتها.   

وهو كذلك مجازفة بالنّسبة إلى الرّئيس، فلا يخفى على الملاحظ أن شعبية قيس سعيد تراجعت عما كانت عليه عند انتخابه، فهو لم يتمكن من تنفيذ وعوده الانتخابية، وبدا كما لو أنه تخلى عن الشعارات التي رفعها سابقًا من رفض للتّطبيع والمطبّعين و"الغيرة" على السّيادة الوطنية، والتعهّد بالحفاظ على الدّيمقراطية،... وقد أثارت مواقفه من الاحتلال الفرنسي - أثناء زيارته الأخيرة إلى باريس-  واعتبار هذا الاحتلال  ضربًا من "الحماية" موجةً من الغضب والانتقادات الحادّة، بل ارتفعت بعض الأصوات مطالبة إيّاه بالاعتذار عن التّصريحات التي صدرت عنه. ثم إن صمته عمّا ترتكبه النائبة عبير موسى عن "الحزب الدستوري الحرّ" وتعطيلها لعمل البرلمان، وعدم إصدار أي تصريح منه يدين تلك التصرفات دفع الكثير إلى اعتباره تواطؤا يهدف إلى ترذيل مجلس نواب الشّعب في عيون المواطنين والتقليل من أهمّيته في مقابل مؤسّسة الرئاسة.

فإذن اختيار الرئيس لشخصية لا تحظى بالقبول لدى الأغلبية الحزبية في البرلمان سوف يجعله معزولاً عن الأحزاب الفاعلة بعد أن بدأ يفقد زخم الدّعم الشّعبي بسبب ما ذكرناه من عوامل. ولا نعتقد أن الرئيس مستعد لارتكاب مزيد من الأخطاء وهو يرى حجم الانتقادات التي توجّه إليه في كل مناسبة.

من المؤكد أنّه ليس من مصلحة العديد من الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية التّونسيّة حلّ البرلمان وإعادة الانتخابات، فبعض الأحزاب سوف تختفي من البرلمان إذا أجريت انتخابات جديدة لأنها أثبتت أنّها ليست وفية للثّورة ولمبادئها، بل إن بعضها معادٍ للثورة  ولشهداء الثورة، ولا يعترف بالمؤسسات التي انبثقت عنها وتسعى جُهدها للإجهاز عليها،  وبعض الأحزاب الأخرى انكشف دعمها للّواء المتقاعد خليفة حفتر ولبشار الأسد رغم ما ارتكباه في حقّ شعبيهما من جرائم، فهي في نظر الشّعب تشكّل تهديدًا للسّلم الأهلي من خلال استعدادها للتّحالف مع أنظمة قمعية استبداديّة. وفي المقابل سوف ترتفع أسهم أحزاب أخرى أكّدت الأحداث أنّها مدافعة بشراسة عن الثّورة وهي صمّام أمانها في المستقبل. وتبعا لكل هذا فسوف تضطر جميع الأطراف إلى إيجاد صيغة لحلّ الخلافات وتشكيل حكومة تحظى بقدر أكبر من التوافق والمصداقية.