سياسة تركيا في ليبيا وتحدياتها الدولية

إزاء تصاعد المشكلات في شرق المتوسط ووقوع العاصمة الليبية، طرابلس، تحت القصف المتواصل، يبدو تقارب السياسة التركية كرد فعل على ظهور تحالفات تسعى لاستبعادها من حماية مصالحها في البحر المتوسط وليبيا، ولهذا بدأت في التحرك تجاه تغيير موقفها من الاتفاقات القائمة ما بين دول المتوسط، كما وقعت مذكرتي تفاهم مع الحكومة الليبية في نوفمبر 2019ـ، للحدود البحرية والتعاون الأمني، وهو ما يتطلب تقييم سياسة تركيا على مدى الفترة اللاحقة من وجهة مسامهتمها في تحقيق النفوذ التركي في البحر المتوسط وليبيا.

 وعلى مدى الفترة السابقة، حاولت تركيا بناء موقفها السياسي على مسارين يتعلق المسار الأول بتطوير موقفها القانوني والفعلي في البحر المتوسط وفي دعم حكومة الوفاق، وفي هذا السياق، بدأت في اتخاذ إجراءات لنشر السفن الحربية، بجانب تقديم الدعم العسكري لليبيا، أما المسار الثاني، فيتضح في محاولة بناء موقف إقليمي تكون مهمته إسناد دعم حكومة الوفاق وتطوير الحل السياسي، وكانت زيارة الرئيس التركي، أردوغان، لتونس، في 24 ديسمبر الماضي، باكورة التوجه الجديد، الذي تبعه بزيارته للجزائر في يناير 2020.

وقد شهدت الساحة السياسة العسكرية والأمنية في ليبيا تحسناً بعد توقيع مذكرتي التفاهم مع تركيا، حيث تمكنت " الوفاق" من تحييد القوة الجوية لمهاجمي العاصمة، طرابلس، ودعم انتشار قوات الوفاق في المنطقة الغربية وصولاً لمدينة سرت، ما شكل ترجيحاً لميزان قوة الحكومة الليبية وترسية لوضعها السياسي ، فمنذ توقيع مذكرتي التفاهم بين تركيا وليبيا، يتزايد عنصر الثقة بين البلدين، وقد عبرت زيارات فايز السراج المتكررة لأنقرة عن ثبات العلاقات الثنائية رغم العواصف الإقليمية والدولية بشأنها، وتجلت مظاهر التضامن بين الطرفين بعد فك الحصار عن طرابلس والسيطرة على قاعدة " الوطية الجوية" واستعادة ترهونة، ما يدل على جدية تركيا في تنفيذ الإلتزامات الثنائية وإمداد الحكومة الليبية بخبرات لتطوير قدراتها العسكرية والأمنية .

وقد اعتبرت تركيا أن الحل السياسي ملائماً لإنهاء الأزمة الليبية، وذلك عبر دعم الحكومة الشرعية، الوفاق الوطني،  وافترضت أن تقويض الوضع القائم يدفع البلاد نحو الفوضى، ولذلك، ترى أهمية تعريف الأعمال القانونية وتلك غير القانونية، وفي هذا السياق، تخلص إلى أن تعريف الهجوم على العاصمة عدواناً بسبب إنكار الاتفاق السياسي والإعلان عن تأسيس وضع مختلف يستمد مشروعيته من الأعمال العسكرية، وحسب قرارات مجلس الأمن، يتلاقى كثير من الدول مع الموقف التركي ، وخصوصاً في مسألة دعم الاتفاق السياسي، كحل مشترك، لكن مع اختلافات حول إعادة تشكيل الحكومة،

وعلى اية حال، لم يتوقف تأثير المساعدات التركية على منح " الوفاق" ميزة نسبية مكنتها من تطوير سيطرتها العسكرية والمدنية، لكنها تزامنت مع ظهور أوربي وتحالفات في البحر المتوسط تتبنى مواقف مضادة، ويمكن مناقشة هذه التغيرات من وجهتين؛ الأول، وهو ما يتعلق بمساحة الحياد اللازمة لفرض قيود على المسار العسكري، وخصوصاً ما يتعلق بدعم السلاح والمرتزقة من جنسيات متعددة، و الثاني، يرتبط باحتمالية تخلي البلدان الأوربية عن فكرة الاحتكار والهيمنة للسياسة الدولية حول ليبيا.

كان التحدي الرئيسي من جانب فرنسا التي تبنت استبعاد تركياً منذ 2011، من الترتيبات الخاصة بليبيا، وفي الفترة الأخيرة، كان واضحاً مدى الخلاف بين الطرفين حول تغير ميزان العمليات العسكرية في ليبيا، حيث بدأت فرنسا في تكوين موقف دولي مناهض للسياسة التركية في البحر المتوسط عبر تجميع حلفاءها في المنطقة العربية وإعادة بعث حوار برلين بدون تركيا، وهنا، قامت السياسة الفرنسية على حث حلف الأطلسي على مراقبة التحركات التركية.

غير أن الأطراف الدولية والإقليمية بدت منقسمة حول السياسة التركية في ليبيا، فبغض النظر عن الموقف المتأرجح للولايات المتحدة، تبدو روسيا والإمارات العربية والسعدية ومصر في اتجاه متقارب يدعم الحل العسكري، فيما تحاول الجزائر بناء موقف محايد يضمن عدم انتشار التهديد الأمني على حدودها.

في هذه الفترة، شهدت طرابلس تعدد النشاط السياسي، وظهر ما يبدو نمطاً تنافسياً بين تركيا والولايات المتحدة، فمن جهة، تتجه السياسة التركية لتشبيك علاقاتها السياسية مع ليبيا عبر نشر علاقاتها الاقتصادية والأمنية، ومنجهة مماثلة، تتجه الولايات المتحدة لنفس المسار عندما تعلن عن دعم حكومة الوفاق عسكرياً وتؤيد سياستها النقدية، وقد عبر اللبلدان عن سياستهما في زيارات وفود متنوعة التكوين تحمل في طياتها الرغبة في بناء علاقات استراتيجية لاتتوقف عند مستوى إسناد حكومة الوفاق.

وثمة جدل بأن زيارات الوفود التركية والأمريكية، ترتبط بالتقارب إزاء  التغيرات في ليبيا، وهذا ما يتعزز في التوافق بشأن التدخل الروسي وتقييد السياسة الفرنسية، لكنهما يختلفان فيما يتعلق بالانفتاح على الأطراف الليبية والموقف من المبادرة المصرية، ما يحمل في ثناياه إمكانية ظهور تنافسية أمريكية-تركية إذا ما استمر الصراع دون حسم واضح، حيث تعمل الولايات المتحدة على بدائل تضمن تواصلها المستمر مع كل الأطراف الدولية والإقليمية.

وحسب موقفها من حكومة الوفاق، تبدو تركيا والولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا اقرب الدول للدخول القانوني على السياسة الليبية، فيما تعمل بعض الدول الأخرى وفق سياسات الأمر الواقع ويعتبر الحكومة الليبية محل نزاع، وهنا، يمكن تصنيف عملية "إيرنى" الأوربية واحدة من أنماط التدخل دون تنسيق مع الحكومة القانونية، وفي ذات السياق، تتصرف فرنسا دون الرجوع لمجلس الأمن أو حلف الأطلسي، ويمكن القول، أن اختلاف منظور التعامل مع السلطة الليبية، ساهم في ترسية النفوذ التركي واقترابه مع إيطاليا، فيما الدول الأخرى تكافح لتفعيل نفوذها السياسي على خلفية المصالح الأمنية والاقتصادية 

وفي اتجاه آخر، يتبلور تقارب بين تركيا وإيطاليا والولايات المتحدة،  يقوم على أرضية تماثل التهديد، سواء من تزايد نفوذ  فرنسا أو روسيا، ورغم طبيعته التضامنية المؤقتة، يبدو تقارب هذه البلدان مهماً لحكومة الوفاق في هذه المرحلة، حيث يشكل إسناداً قوياً لمكانتها الدولية كممثل لليبيا، وهنا، يمكن قراءة التواصل فيما بين هذه البلدان كمؤشر على وجود مصالح الحد الأدنى في مواجهة التهديد المتماثل، لكنه يواجه صعوبة في بناء المصالح المشتركة.

وبسبب تنافر سياسات الاتحاد الأوربي، لم تستطع إيطاليا كبح السياسة الفرنسية،  وفي هذا السياق، يعد التقارب الإيطالي ـ التركي تعبيراً عن قبول متبادل للمصالح في ليبيا والبحر المتوسط ، حيث يساعد التقارب بين البلدين على توفير الإسناد المباشر لحكومة الوفاق، وأيضاً إفساح الطريق أمام تركيا للتواجد الفعال في البحر المتوسط وتقليص نفوذ الاتحاد الأوربي وإفراغ مهمة "إيرنى" من محتواها.

وفي محاولة لتفسير سياسة تركيا تجاه روسيا، يمكن القول، أن الخلاف بينهما يكمن في جانبين، الأول يتعلق ببالخلاف حول ربط التسويات في سوريا بالتنسيق بينهما في ليبيا، حيث تعتبرهما أنقرة ملفين منفصلين، وذلك على خلاف تصورات موسكو، أما الثاني، فيرتبط بموضوع وقف إطلاق النار في ليبيا، حيث تذهب تركيا إلى ضرورة سحب المسلحين غير الليبيين كشرط مسبق لوقف الحرب . في الواقع، يرجع هذا الخلاف لعدم قدرة الطرفين على فرض مبادرتهما على خليفة حفتر وانحياز روسيا لمواقفه، حفتر، بشكل أثار التشكك في جدية روسيا وخصوصاً بعد إنتشار مرتزقة "فاغنر" الروس في الجنوب الليبي ومنطقة الجفرة.

ورغم أن السياسات الروسية والأمريكية بعيدة عن تقسيم ليبيا، فإنها تعمل بطريقة تدعم تجزئ السلطة وتحول دون وجود حكومة قوية، بشكل يدعم الانقسام السياسي الفعلي، والذي يمكن أن يلقى صداه في انقسام المؤسسات البيروقراطية أو قابليتها للتقسيم، وخاصة قطاع الكهرباء والنفط، وبالتالي، فإن استمرار الصراع الروسي ـ الأمريكي سوف يشكل أحد مفاعيل التقسيم السياسي ، سواء بقصد أو بدونه، هذه النوعية من القيود تضفي تحديات أمام قدرة تركيا التنافسية .

على المستوى الإقليمي، يمكن تفسير الدخول التركي السهل لشمال أفريقيا بمدى القدرة على قراءة الوضعين الدولي والإقليمي بطريقة تحفز على الإنخراط الكثيف في الأزمة الليبية، حيث استفادت من اختلاف المواقف الأوربية وأيضاً الروسية والأمريكية بشكل ساعدها على تقليل الضغوط عليها، ولعل الاستفادة من وضعها في حلف الأطلسي كان ضمن عوامل تقييد السياسة الفرنسية، كما استطاعت تركيا تطوير علاقة مؤسسية مع حكومة الوفاق، تستند لإطار قانوني والاستفادة من الوفورات التاريخية لديها في المجتمع الليبي.

ورغم الولوج السهل، تواجه تركيا تعقيدات قائمة، فبينما سارعت تونس برفض التعاون مع تركيا أو الاصطفاف مع اي تحالف، متعللة بالاحتفاظ بسيادتها بعيداً عن أي إلتزامات تضر وضعها السياسي، كان موقفها متباعداً مع حكومة الوفاق لدى زيارة الرئيس التونسي، قيس سعيد، لفرنسا في نهايات يونيو 2020، حيث طرح مساراً من شأنه تهميش سلطة الوفاق واقتراح مسار يعيد الأزمة لنقطة الصفر، وبشكل يتقارب مع حلفاء حفتر الساعين لتقويض اتفاق الصخيرات واعتبار الوفاق منتهية الصلاحية، وتمتد التعقيدات أيضاً عندما يتحدد الموقف المصري في إعتبار تمدد المعارك لمدينة سرت تهديداً مباشراً، وأن مشروعية حكومة الوفاق لا تكفي لتغطية الوجود التركي في ليبيا.

وفي ذات اليساق، يكشف شغور منصب رئاسة البعثة الدولية في ليبيا عن ظهور تنافسية بين دول شمال أفريقيا، عندما لقي ترشيح الجزائر " رمضان لعمامرة"، وزير الخارجية السابق للمنصب، لكنها لقيت اعتراض الولايات المتحدة، وهناك تقديرات بأن الاعتراض عليه يرجع لإعتراض مصر و الإمارات، وهذه النتيجة يمكن قراءتها من جانبين؛ الأول، وهو أن دول جوار ليبيا تعمل بشكل غير متناسق يساعد على الافتراق حول المسائل التفصيلية، أما الثاني، فيتعلق بضعف قدرات الجزائر على التاثير في الأزمة الليبية، وبهذا المعنى، ستكون الجزائر أمام تحديات بناء حيزها الإقليمي أو الدولي للنفاذ لقضايا الأمن الإقليمي، ومن ثم، تأتي أهمية تضامن دول شمال أفريقيا حول الحل السياسي.

على أية حال، سوف تكون المعارك حول سرت والجفرة محور المناقشات الدولية لاحتواء الصراع والبدء بالتسوية أو الدخول في مرحلة ثانية من التدخل الدولي المباشر، ولذلك قد لا يسعف مسار برلين في بناء أهداف دولية مشتركة، حيث يقوم على تكوين بيئة انقسامية تعيد إنتاج الأزمة الليبية، ولذلك تبدو أهمية الانتقال لابتكار مسار وطني ليبي يتسم بالمرونة والحرية والاستقلال عن المتورطين في جرائم الحرب.

وبشكل عام يمكن القول، أنه رغم تقدم تركيا في السياسة الليبية وتراجع أهمية عقبة فرنسا، يبدو التحدي الرئيس أمام تركيا ماثلاً في القدرة على تقليل أمد النزاع والانتقال للحل السلمي، وهذا ما يقتضي العمل على بناء علاقة مستقرة نسبياً مع الولايات المتحدة ودول شمال أفريقيا، بحيث تؤدي لتقليل التباين في السياسات ويساهم في تطوير الحل السياسي وتحييد التهديد الأمني