ثبات قوات الوفاق وفشل قوات حفتر: متى سيحل السلام في ليبيا؟

تحوّل مسرح الأحداث في ليبيا إلى صراع بين طرفين، أحدهما يملك السلاح والآخر يملك مشروعاً "وطنيا"، إلا أن إشكالية الأمن الشامل والدّائم لا يتحقق بمعادلة القوي والضعيف، بل برؤية للديموقراطية وإنشاء دولة مدنية، تحفظ حقوق المواطن والمؤسسات المنسجمة التي انتفض من أجلها الشعب الليبي في ثورة شباط / فبراير 2011، فمعالم هذه الخصائص في المشهد الليبي اليوم لا تساهم في إحلال الأمن العادل الشامل من أجل تنمية مستديمة، بعيدة عن التّدخل الخارجي الذي بات يهدّد السّلام في ليبيا وازداد إلى تقسيم المجتمع الليبي.

تعيش ليبيا منذ أكثر من أربع سنوات صراعاً مسلّحاً، زاد في تعقيد الأزمة السياسية والأمنية منذ إعلان قوات المشير المتقاعد خليفة حفتر في شهر نسيان/ أبريل 2019 هجوماً ضد حكومة الوفاق، الحكومة الشرعية والمعترف بها دولياً برئاسة السّيد فايز السّراج في طرابلس. مرّت سنة كاملة من هجوم قوّات المشير حفتر المكوّنة من مليشيات ومرتزقة ممولة من أبو ظبي والرياض، والمدعومة من موسكو وباريس والقاهرة وعمّان، ممّا جعل المتتبع للشأن الليبي يرى بأنّ أفضل فهم للوضع في ليبيا هو بالنظر لهذه الأوضاع على انها مجرد علاقات قائمة على مصالح ومكاسب - علاقات المحاور - .

الصراع المسلح في  ليبيا فرض حالة من فصل دوائر السّلطة والمال، ما أدى إلى ضعف الدّولة وتوغّل الفصائل المسلحة، هذه الحالة أفرزت آليات وتحدّيات لبناء جهاز أمني ناجع لمكافحة الفساد ووقف الحرب الأهلية في ليبيا، أكثر من 20 مليون قطعة سلاح منتشرة عبر التّراب الليبي، فضلاً عن خصوصية المجتمع الليبي الذي فكك اللغز الليبي في معادلة الصراع الثنائي (شرق-غرب). وبالتّالي طرح موضوع التركيبة الإجتماعية التي كانت قائمة على أساس التعايش السلمي وحركةً إجتماعيةً لم يكن فيه أي تفاوت إجتماعي مبني على المصالحة والمودة، حتى ظهرت أزمة الدّولة القطرية أو القومية في عهد نظام القذافي، ما نتج عنه تفتت كيان النسيج الإجتماعي الليبي، وبسبب الإقتصاد الرّيعي ظهرت أزمات إقتصادية وإجتماعية وبرزت ثقافة العنف وضياع الهوية، لصالح صعود البعد القبلي والعصبية المحلية، فأصبح مفهوم الدولة هشاً وفارغاً، وبالتالي انعدمت العلاقات الأفقية، جميع هذه المعطيات جعلت مهمة المبعوث الأممي "المستقيل" غسّان سلامة تتعقد، وبخاصة مع قرار المشير المتقاعد خليفة حفتر بشنّ حرب على العاصمة طرابلس، متجاهلاً المساعي الأممية لتشكيل المؤتمر الوطني الجامع لحل الأزمة الليبية.

حاولت قوات حفتر طوال عام كامل الدخول إلى طرابلس والسيطرة على العاصمة، من محاور مختلفة، في ظل اشتباكات طاحنة مع مقاتلي حكومة الوفاق الوطني في غرب وجنوب غرب البلاد، قوات حفتر التي حشدها للهجوم على طرابلس تتألف من بقايا كتائب القذافي ومرتزقة أفارقة من السودان وتشاد والنيجر وأجانب من روسيا وأوكرانيين، كما ضم حفتر في قواته المقاتلة مجموعات تنتمي للتيار السلفي المتشدد، ومن المعروف أن هذه التيارات هي عابرة للحدود وغير مرتبطة بوطن أو أمة. قوات حفتر تهدف لإعادة ليبيا من جديد إلى حكم الفرد الشمولي العسكري الدكتاتوري، فارضة عقلية "الرجل القوي" . بالجهة المقابلة تمركزت قوات حكومة الوفاق في الحدود الجنوبية للعاصمة طرابلس، حيث شكل المجلس الرئاسي للحكومة غرفة أمنية مشتركة بقيادة اللواء أسامة جويلي وغرفة ميدانية بقيادة اللواء أحمد أبوشحمة.

وفق التقرير الأخير للجنة الخبراء بالأمم المتحدة، فشلت حملة حفتر العسكرية على طرابلس بعد مرور عام كامل من المعارك، رغم الدعم العسكري والمالي والسياسي اللامحدود الذي يتلقاه حفتر من الدول الداعمة له، ليس فقط الدول، فقد أكدت صحيفة "le Monde" الفرنسية في كانون الثاني/ يناير2020، أن السعودية تموّل عمليات مرتزقة "Wagner" الروسية التي تقاتل بآلاف الجنود إلى جانب حفتر، بعد دخول قوات حكومة الوفاق إلى مدينة غريان أثر طرد قوات حفتر من المدينة نهاية حزيران/ يونيو2019، انكشف حجم الدعم العسكري المتطور الذي يتلقاه حفتر من فرنسا، حيث عثرت قوات الوفاق على صواريخ "FGM-148 Javelin"  الأميركية المتطورة "المضادة للدروع" والتي يملكها الجيش الفرنسي، إضافة لصواريخ صينية وذخائر مصرية وطائرات مسيرة إماراتية.

رغم موافقة حفتر على وقف إطلاق النار في هدنة اقترحتها موسكو وأنقرة، ودخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير الماضي،إلا أن قوات حفتر استمرت في انتهاك هذه الهدنة، وأغلقت حقول وموانئ النفط، برغم الدعوات الدولية. بعد مؤتمر برلين وقرار مجلس الأمن الدولي لوقف القتال في ليبيا والعودة إلى طاولة المفاوضات، نلاحظ بأن دخول تركيا على خط تطورات القضية الليبية غيّر معادلة الصراع بين القوى المتصارعة في ليبيا، على صعيد المواقف في ميدان القتال، بفضل الطائرات التركية بدون طيار، وعلى صعيد المواقف في الميدان الدبلوماسي، منذ التقارب الجزائري-التركي للبحث عن حل شامل ودائم للأزمة الليبية.

رغم انشغال العالم بجائحة كورونا Covid-19 التى غيرت سلوك العالم وستغير أدبيات ونظريات العلاقات الدولية ونظريات الإقتصاد الكلي والجزئي؛ إلا أن الأنظار تتجه حالياً إلى ما يجري في منطقة غرب ليبيا، بعد تمكن قوات الوفاق من إستعادة السيطرة على جميع مدن طرابلس التي وقعت بيد قوات حفتر لفترة من الزمن: صرمان وصبراتة وغريان، بإستثناء ترهونة التي ستكون النقطة الفاصلة في الحرب الدائرة بين قوات حفتر والوفاق.

تعد السيطرة على غرب طرابلس هي بداية النهاية لمشروع حفتر وحلفائه الإقلميين، لم يكن حفتر أو عرّابيه ( خصوصاً أبو ظبي) يتوقعون أن تنهار مليشياته في 6 مدن ومنطقتين إستراتيجيتين، حتى قاعدة "الوطية" الجوية جرى تحييدها بعد اقتحامها من قوات الوفاق في نهاية الشهر الماضي، ما جعل الشريط الساحلي غرب طرابلس على طول 170 كم وعمق أكثر 30 كم تحت سيطرة قوات الوفاق.

من الجدير بالذكر إلى أن حكومة الوفاق نجحت دبلوماسياً في توقيع الاتفاق الاقتصادي الحدودي مع أنقرة عندما أغلقت معبر المتوسط الذي يؤمن الطاقة لأوروبا، وانتزعت ورقة تفاوضية مهمة تستطيع أن تساوم بها الدول الأوروبية، فضلاً عن ضمان حصولها على الدعم المطلوب من تركيا.

الأوضاع الميدانية تشير إلى  تقهقر قوات حفتر، خسروا كل الشريط الساحلي الممتد من العاصمة طرابلس إلى الحدود الجنوبية الشرقية مع تونس، هناك تطويق لقاعدة "الوطية" التي  فيها ما يقارب 150 من الضباط الأجانب والميليشيات الأوروبية المنخرطة في القتال إلى جانب حفتر،  سقوط هذه القاعدة سوف تشكل حرجاً كبيراً للمشير حفتر، وبالتالي سقوط مشروعه الإنقلابي، ما يؤكد أن المشهد الليبي يتجه إلى منعطف جديد، يرسخ خروج الغرب الليبي من المشروع الإنقلابي، أما النقطة الثانية التي تتعلق بهذه التطورات، فهي الصراع الإقليمي في ليبيا، الذي ينفذ من قوى إقليمية تتصارع في الساحة الليبية بقيادة الإمارات وفرنسا، كما أن  الدور الإيطالي ليس بعيدا كذلك.

أن المشير خليفة حفتر أصبح ورقة خاسرة،و يعتمد كلياً على التأييد الأجنبي، جهود التأييد الأجنبي لحفتر تحركها الإمارات ومصر وفرنسا، من أجل سيطرتهم على ليبيا وزعزة المنطقة المغاربية وعلى رأسها الجزائر، كما تريد فرنسا من خلال توغلها في ليبيا فرض سيطرتها على الساحل الإفريقي والانتفاع من مصادر الطاقة المتمثلة في النفط والغاز. لكن الليبيين لن يقبلوا بأي تدخلات أجنبية تنهب خيراتهم وتعيدهم إلى مربع الاستعمار من جديد، المنطقة الشرقية التي يحكم حفتر سيطرته عليها تعاني اقتصادياً وهنالك نقص في الخدمات والسيولة النقدية وانعدام الحريات، ولذلك معركة الحسم التي وعد بها المشير حفتر الليبيين، قد حسمت، وبالتالي لن يسير الباقين والمترددين من الليبيين خلف حفتر، بعدما شهدوه من انكسارات لقوات شرق البلاد، وبعد الانتصارات الأخيرة للوفاق في غرب البلاد.

الليبيون اليوم في المنطقة الغربية وحتى الشرقية ليسوا مستعدين لأن يقبلوا بتدخل عسكري غاشم بهذه الطريقة في شؤونهم الداخلية، وتسليط حاكم عسكري جديد نرجسي يسعى إلى التسلط على البلاد ومواردها، الفارق بين قوات حفتر والوفاق هو النازع الوطني الذي تحمله قوات الوفاق في قتالهم من أجل استقرار ليبيا، تحقيقاً لدولة مدنية ديمقراطية وعدم سقوط طرابلس في مشروع عسكرة الدولة.

إن معركة الحسم وفشل السيناريو المصري الإنقلابي تجبر عرّابي المشير خليفة حفتر على إعادة النظر والإنتقال للخطة للخطة "البديلة" ، وهي إطالة الصراع، بدليل تسيير الإمارات جسراً جوياً عسكرياً من قاعدة "سويحان" الإماراتية إلى قاعدة "الخادم" العسكرية الإماراتية ببنغازي في ليبيا، لنقل آلاف الأطنان من الدعم العسكري الاماراتي لقوات حفتر، وتزويد حفتر بمزيد من المرتزقة الأفارقة والأجانب، فضلاً عن تدخل الامارات في الشأن السياسي الداخلي التونسي والضغط على الرئيس قيس سعيد ومحاولة توريطه في الصراع الليبي-الليبي بين قوات حفتر والوفاق.

ان تعقيدات المشهد الليبي وانسداد الآفاق ما زالت هي السمة السائدة للأزمة الليبية، خاصة بعد لقاء برلين، بالرغم من وجود حوار بدأ في القاهرة، وحوار 5+5 والذي هو حوار أمني، وحوار 13+13+13  للتركيبة السياسية الجديدة، كما تبقى معضلة اختيار المبعوث الأممي الجديد التوافقي، بعد الفيتو الأمريكي ضد اختيار الأمين الأممي السيد غوتيرتش لوزير الجزائر السابق السيد رمطان لعمامرة، حيث كان هنالك ضغط إماراتي-مصري- فرنسي على الولايات المتحدة لكي تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي.

القوى المتنازعة في ليبيا لم يبق أمامها سوى خيار بالعودة إلى طاولة المفاوضات، وفقاً لمخرجات اتفاق "الصخيرات"  الذي أبرم في المغرب 2015 تحت رعاية الأمم المتحدة، ومخرجات إتفاق برلين كانون الثاني/ يناير 2020 الذي حث على استئناف جهود السلام، هنا الدور الجزائري-التركي من جهة والدور الروسي من جهة ثانية مهم في إدارة المسار التفاوضي، علماً أن الجزائر كانت قد دعت لعقد قمة في العاصمة الجزائرية في شهر تموز/ يوليو المقبل من أجل إرساء السلام بين حفتر والوفاق.