السودان: ماذا بعد مفاوضات جدة؟

لم يمر يومان على إعلان الجيش السوداني موقفه من تجميد مشاركته في مفاوضات جدة مع قوات الدعم السريع (التي يصفها الجيش السوداني بـ"المتمردة") حتى أعلنت الوساطة السعودية-الاميركية عن أن المفاوضات سترفع لأجل غير مسمى.

 برر الجيش السوداني خطوة تجميده لمشاركته في المفاوضات، بأنها جاءت إحتجاجا على عدم تنفيذ الدعم السريع للبنود الواردة في إعلان المبادئ الذي تم التوقيع عليه في جدة، وبخاصة المتعلقة بضرورة الإنسحاب من المستشفيات والمؤسسات المدنية الأخرى.

وبينما كانت التوقعات تمضي بإتجاه قيام الوساطة بفرض مزيد من الضغوط على طرفي النزاع في السودان من أجل وقف إطلاق النار، تفاجأت الأوساط المهتمة بالأزمة السودانية بقرار تجميد المفاوضات برمتها لأجل غير مسمى، فما هي المسارات المستقبلية المتوقعة للأزمة السودانية؟ وهل يمكن توقع نهاية قريبة لهذا الصراع المسلح؟ وكيف يمكن تصور دور الأطراف الخارجية في المرحلة المقبلة؟

الطريق إلى جدة
القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمردة وافقتا على المشاركة في مفاوضات جدة، بعد أكثر من شهر من اندلاع الإشتباكات المسلحة بين الطرفين، وفي وقت لم يكن أيا منهما متحمسا لسماع وجهة نظر الآخر، خاصة مع تباعد المواقف وتعمق حالة فقدان الثقة بينهما، ولكن بحسبان الثقل الدولي لدولتي الوساطة (الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية) لم يكن أمام طرفي الصراع إلا الإستجابة للمشاركة في مفاوضات جدة، فضلاً عن أن هذه المبادرة صُممت وكأنها المنبر الحصري والوحيد للتعامل دوليا وإقليميًا مع الأزمة السودانية، من واقع أن دولتي الوساطة الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية السعودية عضوان مؤثران في الرباعية الدولية التي تضم بجانبهما بريطانيا والإمارات العربية المتحدة، وهو تحالف دولي حظي بتأثير مهم في القضايا السودانية منذ سقوط نظام البشير في أبريل من العام 2019.

ركز إتفاق جدة على ضرورة الإلتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، في حماية المدنيين ومراعاة تسيير العمل الإنساني، وحماية المنشآت المدنية، العامة والخاصة، وعدم إستخدامها للأغراض العسكرية، والإمتناع عن تجنيد الأطفال وإستخدامهم في الأعمال المسلحة العدائية.

في المعايير القانونية الدولية تعتبر هذه البنود من المسلمات، ولا تحتاج لإتفاق يذكر أي من الطرفين المتصارعين بإلتزاماتهما تجاه المدنيين في السودان، ولكن في تقديرنا هنالك سببين لإدراج هذه البنود في إتفاق جدة، الأول يتعلق بفشل هذه المفاوضات في إحداث إختراق كبير يقرب المسافات بين طرفي الصراع، في ظل قناعة  كل منهما بمقدرته على حسم الصراع عسكريا( أو على الأقل هذا ما يصرحان به للإعلام). أما السبب الثاني فيتعلق بإصرار قيادة الجيش السوداني على موقفها بإتهام قوات الدعم السريع بالسيطرة على أكثر من 28 مستشفى و 6 مراكز صحية حيوية،  وتحويلها لمقار عسكرية، بالإضافة إلى اتهامات الجيش لقوات الدعم السريع بأنها تستخدم أسلوب القتال في المناطق المدنية، والانتشار بين الأحياء السكنية والتحصن بها، مما عرض الكثير من المؤسسات المدنية والخدمية إلى تخريب وأضرار كبيرة. لذلك، اذا ما تمكنت وساطة جدة من ارغام قوات الدعم السريع على تنفيذ هذا البند، فأن ذلك سيكون مكسباً كبيرا للقوات المسلحة السودانية، التي تسعي لتطبيع الأوضاع العامة وإستعادة الحياة المدنية في العاصمة الخرطوم.

اللافت في الإتفاق الذي سمي بـ"إعلان جدة" هو الشروط التي جاءت في مقدمته، ومن أهمها البند رقم 1، الذي نص على أن "الإلتزام بالاعلان لن يؤثر على أي وضع قانوني أو أمني أو سياسي للأطراف الموقعة عليه"، وهو نص يؤكد تباعد مواقف الطرفين وعدم إلتزامهما بوقف إطلاق النار حتى خلال توقيع هذا الإتفاق، وربما أراد الجيش من خلال هذا البند إرسال رسالة تؤكد أن توقيعه على هذا الإتفاق لا يحرمه من القيام بواجباته الدستورية في فرض الأمن وإستعادة النظام، وبالمقابل لا يرتب هذا الاتفاق أي ميزة قانونية لقوات الدعم السريع التي ما زال الجيش يعتبرها قوة متمردة خارجة على القانون.

 أما البند رقم 2 في إعلان جدة فأنه ينص على أن" الإلتزام بهذا الإعلان لن يرتبط بالإنخراط في أي عملية سياسية"، وهذا مؤشر على أن قيادة الجيش السوداني تريد قطع الطريق على الجنرال حميدتي (قائد الدعم السريع)، وحرمانه من الاحتفاظ بدور سياسي مؤثر، من خلال استفادته من الاتفاق السياسي السابق حول العملية السياسية في السودان، المسمى بـ"الإتفاق الإطاري"، وهو اتفاق سياسي مدعوم خارجياً، ومسنود داخلياً بـ"قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي" التي لها علاقة متوترة مع قيادة الجيش السوداني.

تجميد المفاوضات
عوامل فقدان الثقة وتباعد المواقف بين طرفي الصراع المسلح الحالي في السودان، أدت إلى عدم حصول طرفي الوساطة في إتفاق جدة (الولايات المتحدة والسعودية) على النتائج التي كانوا يتوقعونها من هذا الاتفاق، الذي بدأ بتوقيع بيان أولي للمبادئ العامة، ثم طور لاحقاً لإتفاق لوقف إطلاق النار.

 فلم يتوقف القتال في العاصمة الخرطوم على الرغم من توقيع إتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهو ما حدا بالولايات المتحدة الامريكية القيام بفرض عقوبات على الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ولم يتأخر رد الجيش السوداني كثيرا حين أعلن تجميده المشاركة في المفاوضات المرتبطة بإعلان جدة.

 على الرغم من أن الجيش السوداني قد برر قراره بتجميد المشاركة في المفاوضات، بسبب عدم إلتزام قوات الدعم السريع بتنفيذ أي من تعهداتها بالإنسحاب من المستشفيات والمواقع المدنية الأخرى، بجانب مواصلة تلك القوات إنتهاك وقف إطلاق النار في أكثر من موقع لتحسين وضعها الميداني –بحسب إدعاء قيادة الجيش-. إلا أن هنالك من يفسر الانسحاب المؤقت للجيش من مفاوضات جدة، بأنه إحتجاجاً "غير مباشر" من الجيش السوداني تجاه الولايات المتحدة، لأنها لم تدين "تمرد" قوات الدعم السريع بصورة واضحة، وكذلك لفرضها عقوبات على الجيش مع عقوباتها على قوات الدعم السريع، وهي إشارة واضحة بأن الولايات المتحدة تنظر لطرفي الصراع في السودان بأنهم سواسية، في المكانة والمسؤولية والأدوار.

لا شك أن الجيش السوداني وهو يقوم بهذه الخطوة الإحتجاجية يدرك تماماً أن الولايات المتحدة لم تعد هي صاحبة القرار النهائي في الشأن السوداني، فقد تراجع تأثيرها كثيراً في الآونة الأخيرة، لصالح أطراف إقليمية، رأت أنه من مصلحتها أن تتبني مواقف أكثر إستقلالية في قضايا المنطقة، والعامل الأكثر تأثيراً في هذه المسألة، هو وجود خيارات أخرى متاحة للجيش السوداني، فهنالك الوجود الروسي، الذي يسعي لتوطيد أقدامه في المنطقة، والروس على إستعداد للتحالف مع أي طرف يحقق لهم ذلك، وقد بدا هذا الأمر جلياً في إجتماع مجلس الأمن الأخير، الذي دعمت فيه روسيا موقف السودان بالتجديد التقني للبعثة الأممية، دون إضافات جديدة لمهامها، وأفشلت روسيا مساعٍ غربية تقودها بريطانيا لإضافة بنود جديدة لمهام البعثة الدولية في السودان.

ماذا بعد؟
مؤخراً قام الجيش بخطوة تهدف إلى إضعاف الدعم السياسي والمعنوي، الذي تعتقد قيادة الجيش بأن قوات الدعم السريع وظهيرها السياسي "قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي" تتلقاه من مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان، فولكر بيرتس، وتقدمت الحكومة السودانية بخطاب رسمي إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تطالبه بتغيير مبعوثه إلى السودان، موضحةً بأنه لم يكن محايداً، ومواقفه وتصريحاته وتحركاته تميل إلى جانب خصوم الجيش في الأزمة الحالية-بحسب الحكومة السودانية-.

حتى الآن يحاول الأمين العام للأمم المتحدة الإبقاء على مبعوثه، ولكن سيضطر في النهاية للإلتزام بالقانون الذي يعطي الحكومة السودانية الحق في تغيير المبعوث الأممي الذي لا ترغب به.

أن تعليق المفاوضات الجارية في جدة من دولتي الوساطة، لا يعني أن الولايات المتحدة والسعودية قد توقفتا عن الاهتمام بمجريات هذا الصراع، ولكن من المتوقع أن تتواصل الجهود الدولية والإقليمية لإحداث إختراق ما في هذه الأزمة، وإلى جانب دولتي الوساطة، هنالك الإتحاد الافريقي الذي يحاول لعب دور الوسيط وإحياء تجربته السابقة، التي أفضت إلى إتفاق تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين في العام 2019. فضلاً عن مصر التي تراقب الصراع الدائر في السودان بقلق بالغ، بوصفها أكبر المتأثرين بتداعيات هذه الأزمة، أمنياً وإنسانياً، ولا يمكن إغفال الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر لصالح الإستقرار في السودان. كما أن تركيا مؤهلة أيضاً لأداء دور في مساعي إحلال السلام في السودان، وهنالك توقعات بحدوث ذلك، بخاصة بعد انتهاء انشغالها بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية.