المشهد السوري في مطلع 2021: تصعيد عسكري إسرائيلي وجمود سياسي

شهدت سوريا في الأيام الأولى من سنة 2021م تصعيد عسكري إسرائيلي، تجلى بقصف 15 هدف وموقع للميلشيات الإيرانية في دير الزور وريفها يوم 13 كانون الثاني 2021، أي بعد أيام من ذكرى مقتل قاسم سليماني، واستهدف القصف بشكل أساسي مستودعات أسلحة تابعة لتلك الميلشيات، وأسفر عن مقتل العشرات من عناصرها، وتدمير العديد من مواقعها العسكرية. كالعادة أنكر الحرس الثوري الإيراني سقوط أي قتلى من أتباعه، وأن من قتل بتلك الهجمات هم عناصر تابعون لقوات النظام السوري، وهذا ما تقوم به إيران بعد أي هجمات مشابهة، وتنتظر عدة أيام أو أسابيع بعدها لتنعي بعض قادتها وتقول إنهم سقطوا خلال العمليات الجهادية، دون تحديد مكان وزمان مقتلهم، بالإضافة إلى أنه يتواجد في تلك الميلشيات كثير من الباكستانيين والأفغان، وهؤلاء هم مجرد أرقام بالنسبة لإيران.

خرجت تلك الهجمات عن النمط التقليدي للهجمات الإسرائيلية على مواقع الميلشيات الإيرانية في سوريا، حيث كانت الأعنف والأوسع، ولأول مرة تكون بهذه القوة، وجاءت في توقيت يترقب به العالم تسلم الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن مقاليد منصبه في 20 كانون الثاني 2020، وكانت إسرائيل تهدف من وراء هذا القصف تحقيق العديد من الأهداف، في مقدمتها إثبات قوتها على الأرض، وأنها قادرة على قصف أي موقع، وأنه لن تسمح بأي تهديد لأمنها القومي، وخاصة في ظل الحديث عن رغبة الرئيس الأمريكي الجديد بايدن في إعادة الاتفاق النووي مع إيران، ومن غير المعروف بدقة حتى الآن كيف ستكون سياسة بايدن تجاه الأزمة السورية، وعلاقته مع إيران وروسيا.

التهديد لأمن إسرائيل لم يعد مقتصراً على المنطقة الجنوبية من سوريا، وهي المنطقة التي طلبت إسرائيل من روسيا عدم السماح للإيرانيين بالتغلغل فيها، لكن إيران بدأت بتعزيز نفوذها في تلك المنطقة من خلال بعض العناصر السوريين الذين قامت بتجنيدهم، لذلك أدركت إسرائيل أن الخطر يكمن بربط إيران مع سوريا عبر العراق، مروراً بدير الزور السورية فحمص، وهو طريق تتمكن من خلاله إيران من نقل ما تشاء من أسلحة لحليفها حزب الله اللبناني، لذلك أرادت ضرب الطريق في نقطة المنتصف أي دير الزور.

وكذلك كان لهذا التصعيد أهداف داخلية وخاصة أن إسرائيل مقبلة على انتخابات جديدة في شهر آذار المقبل، وربما تريد إسرائيل إثبات قوتها، وخاصة أن القصف جرى بعد زيارة لقادة من الحرس الثوري الإيراني لتلك القواعد، فأرادت إسرائيل إيصال رسالة لإيران بأنها كانت تراقب تحركاتهم، وأنها قادرة على قصفهم أثناء الزيارة، لكنها أرادت التحذير هذه المرة.

على الرغم من الاستهداف الإسرائيلي المستمر للمواقع الإيرانية في سوريا، إلا إن إسرائيل لم تقم حتى الآن بعمل فعال للحد من النفوذ الإيراني في الساحة السورية على المدى الطويل، مثل عدم السماح للقوافل الإيرانية التي تحمل الأسلحة والمعدات العسكرية من حرية الحركة عبر العراق إلى سوريا، وخاصة أنه في الفترة الأخيرة لجأت إيران لنقل الأسلحة عبر برادات وشاحنات تحمل لوحات سورية بهدف التمويه، وبدأت تخزين الأسلحة والمعدات في مناطق سكنية لتُجنبها القصف، فإسرائيل تقوم بقصف بعض القواعد لكن الإيرانيين أذكى من أن يضعوا كل أسلحتهم في مكان واحد تعرفه إسرائيل، مثل قاعدة الإمام علي في البوكمال التي قصفتها إسرائيل أكثر من مرة،  وتستطيع إسرائيل من خلال التنسيق مع الولايات المتحدة الحد من حرية الحركة عبر الحدود، وخاصة أن للولايات المتحدة تواجد عسكري في التنف على الحدود السورية والعراقية، وفي شرق نهر الفرات في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.

كذلك تستطيع إسرائيل من خلال نفوذها الدولي أن تضغط لإصدار قرارات دولية تطالب بإخراج إيران من سوريا، وخاصة أنها على تفاهم مع روسيا المتصدرة للدفاع عن النظام السوري في مجلس الأمن، ومن المحتمل كثيراً روسيا لن تعارض روسيا قراراً تريده إسرائيل، وكذلك تلتقي المصلحة الروسية مع المصلحة الإسرائيلية بطرد إيران من سوريا، فالكثير من المسؤولين الروس صرحوا بأن روسيا قادرة على حفظ أمن إسرائيل، وعدم تعرضها لأي مخاطر من طرف سوريا، حيث طالب لافروف وزير الخارجية الروسي إسرائيل بإبلاغها بالتهديدات الأمنية من سوريا لتتكفل هي بمعالجتها، وطبعا كان هذا التصريح للإعلام فقط، ويتوافق مع رغبة روسيا بعدم الصدام مع إيران حتى الآن، فروسيا تسيطر بشكل شبه كامل على المجال الجوي السوري، وهي قادرة على منع أي طائرات إسرائيلية من اختراق الأراضي السورية لو أرادت ذلك في حال أن إسرائيل لم تنسق معها في تلك الهجمات، وهناك أخبار كثيرة تحدثت عن انسحاب روسي من بعض المناطق التي تعرضت للقصف قبل القصف بساعات، وكذلك منعت النظام من استخدام منظومة الدفاع الجوي 200S ، 300S ، وتكرار هذا القصف يشكل ضغطاً على المقاتلين السوريين المنضمين للميلشيات الإيرانية والعراقية، ويجعلهم ينتقلون للميلشيات الممولة والمشرف عليها روسياً وخاصة الفيلق الخامس، وهذا ما حصل بعد هذا القصف الأخير حيث انتقل بعض المقاتلين للفيلق الخامس.

كذلك فإن هذا التصعيد حصل بموافقة وتنسيق مع الولايات المتحدة، ويتوافق مع التفاهمات الإسرائيلية الأمريكية حول التواجد الإيراني في سوريا في عهد ترامب، حتى إن وزير الخارجية الأمريكية السابق بومبيو أعلن أنهم قدموا إحداثيات المواقع لإسرائيل، وهذا ما أنكرته إسرائيل لأنها أرادت الظهور بأنها قادرة على ذلك بنفسها دون دعم أو مساعدة من الولايات المتحدة.

كانت إيران قد قامت بعد مقتل قاسم سليماني مطلع 2020م بنقل ميلشياتها من المناطق الحدودية، وحاولت أن تقيم لهم مقرات داخل المدن والبلدات لتجنب القصف عليها، وقد رفع علم النظام السوري فوق تلك المقرات لتوحي أنها قواعد سورية عسكرية، ونفذت هذه الإجراءات على مايقارب 17 مقراً عسكرياً في تدمر ودير الزور وحمص، ويقدر عدد القواعد والمقرات وحواجز التفتيش الإيرانية بما يقارب المائة في عموم سوريا.

وعلى الأغلب فإن القصف الإسرائيلي لن يتوقف وسيستمر في الفترة القادمة، على الأقل حتى يتبين موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من إيران، أما إيران ستسكت كما فعلت سابقاً عن تلك الهجمات، وهي تتأمل بإدارة أمريكية جديدة تتخذ موقف مغاير لإدارة ترامب، لذلك لاتريد أن تقوم بأي عمل عسكري للانتقام ربما يُغير موقف الإدارة الأمريكية الجديدة منها.

وترافق هذا التصعيد العسكري الإسرائيلي مع قرار للنظام السوري بخفض حالة التأهب العسكري في صفوف قواته، حيث أصدر تعميم بتاريخ 10 كانون الثاني 2021 لخفض نسبة الاستنفار في الإدارة التابعة للجيش بحسب كل إدارة، من66 %إلى 33 % للمقرات الإدارية، ومن 80% إلى 50% للقطعات العسكرية، أما بالنسبة للقوات البرية والبحرية من 100% إلى 80%، بينما بقيت جاهزية المشافي العسكرية 80%، وكانت حالة التأهب العسكري والجاهزية قد تم رفعها عند حرب 1948 مع إسرائيل، وارتفعت وانخفضت بعد ذلك أثناء الحروب والأزمات التي عاشتها سوريا، وتم رفعها آخر مرة عام 2011 مع بدء الاحتجاجات الشعبية ضد النظام.

 هذا القرار ربما يكون له الكثير من الأسباب والتداعيات على المدى الطويل، فربما الحالة الاقتصادية السيئة التي وصل لها النظام دفعته لاتخاذ هكذا قرار، وخاصة أن المؤسسة العسكرية له تستهلك مايقارب 50 مليون دولار شهرياً على الأقل، فيبدو أنه أراد خفض أعداد القوات، والاعتماد على الميلشيات العسكرية الموالية له وبعضها مدعوم روسياً وإيرانياً، مما يعني خفض النفقات من غذاء ورواتب وتعويضات.

وربما السبب الثاني كان هو شبه توقف العلميات العسكرية مع المعارضة السورية، وانحصار الجبهات معهم في إدلب ومناطق درع الفرات وغصن الزيتون، وهي التي تشهد هدوء منذ فترة نتيجة الاتفاقات الروسية التركية، وعدم رغبة أي طرف بتصعيد عسكري في هذه الفترة بسبب جائحة كوفيد- 19 وتأثيراتها، ورغبة روسيا والنظام باللعب على وتر التفاوض السياسي، والضغط لإعادة الشرعية للنظام السوري، وعودته للمؤسسات الدولية ومنها جامعة الدول العربية، مما يمهد للانتخابات التي يريد إجراءها في منتصف 2021.

وربما أراد النظام الظهور بمظهر المنتصر، وأن الحرب انتهت، وانتصر بها، لذلك لم يعد هناك حاجة كبيرة لحالة الاستنفار.

ومازالت العملية السياسية السورية تتحرك في مكانها، واللجنة الدستورية السورية والتي ضمت ممثلين للنظام والمعارضة وممثلي المجتمع المدني لم تنتج أي شيء، وربما إذا بقيت تسير في هذا المسار والطريقة التي تعمل بها تحتاج لسنوات للانتهاء من دستور لسوريا.